المحاضرة الثامنة: التمحيص والإبتلاء

الهدف العام
فهم دور البلاء والتمحيص في تربية المؤمن وتهذيب سلوكه وعلاقته بالله تعالى.

المحاور الرئيسة
- التمحيص والابتلاء سنّة الأنبياء
- سرعة البلاء إلى المؤمن
- أسرار ابتلاء المؤمنين
- تعجيل تمحيص المؤمن
- تنوّع تمحيص المؤمنين
- فضل الرضى بالبلوى وترك الشكوى


79


تصدير الموضوع

عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إنّ العبد المؤمن ليكون له عند الله الدرجة لا يبلغها بعمله فيبتليه الله في جسده، أو يصاب بماله، أو يصاب في ولده، فإن هو صبر بلّغه الله إياها"1.

تمهيد

من جملة السُّنن التي جعلها الله جلَّ جلاله في خلقه، سُنَّة البلاء، التي لا ينجو منها بشر ليُمْتَحَنَ ويُخْتَبَر.

فكُلُّ ما يَمْتَحِنُ الله سبحانه عباده به يُسمَّى بلاءً، إنْ كان خيراً أَم شرّاً، قال عزّ وجلّ: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً2 كالأمراض والفقر والموت والعدوّ والحسد والوجع والنقص في الأموال والأنفس والثمرات... والجاه والزعامة والمسؤولية. قال الله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا3.

﴿
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ 4.
 


80


وورد عن أبي جعفر الباقر عليه السلام: "إنَّ الله تعالى ليتعاهَدُ المؤمنَ بالبلاء كما يتعاهدُ الرجلُ أهلَهُ بالهدية من الغَيْبة، ويحميه الدنيا كما يحمي الطبيبُ المريض"5.

التمحيص والابتلاء سنّة الأنبياء:

الدنيا للمؤمنين ليست بدار بقاء ومقام، إنّما دار تمحيص وامتحان، قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ6. فكلّما كانت البلوى والاختبار أعظم، كانت المثوبة والجزاء أجزل. ألم يأتِ عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "ما اُوذي أحد مثل ما اُوذيت"7 وورد عن الصادق عليه السلام: "إنّ أشدّ الناس بلاء الأنبياء ثمّ الّذين يلونهم ثمّ الأمثل فالأمثل"8 من الأوصياء والأولياء؟

سرعة البلاء إلى المؤمن:

عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان عليّ عليه السلام يقول: "إنّ البلاء أسرع إلى شيعتنا من السيل إلى قرار الوادي"9.
 


81


عن أبي عبيدة الحذاء قال: قال أبو جعفر عليه السلام: "يا زياد إنّ الله يتعهّد عبده المؤمن بالبلاء كما يتعهّد الغائب أهله بالهديّة، ويحميه الدّنيا كما يحمي الطبيب المريض"10.

عن أبي الحسن موسى عليه السلام قال: "المؤمن مثل كفّتي الميزان، كلّما زيد في إيمانه زيد في بلائه"11.

عن أبي عبد الله عليه السلام: عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "لا يبقى المؤمن أربعين صباحاً لا يتعهّده الربّ بوجع في جسده، أو ذهاب مال، أو مصيبة يأجره الله عليها"12.

أسرار ابتلاء المؤمنين:

يظهر للمتأمّل في الروايات أن الله يرعى عبده المؤمن، فيبتليه لما هو خير له، ويعطيه لما هو خير له.

أ. الابتلاء خير للمؤمن: روي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "أوحى الله تعالى إلى موسى بن عمران: ما خلقت خلقاً أحبّ إليّ من عبدي المؤمن، إنّي إنّما أبتليه لما هو خير له، وأزوي عنه لما هو خير له، واُعطيه لما هو خير له وأنا أعلم بما يصلح عليه حال عبدي المؤمن، فليرض بقضائي، وليشكر نعمائي، وليصبر على بلائي، أكتبه في الصدّيقين إذا عمل برضائي، وأطاع لأمري"13.
 


82


ب. الابتلاء قرب من الله: عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إنّ الله إذا أحبّ عبداً ابتلاه وتعهّده بالبلاء، كما يتعهّد المريض أهله بالطرف ووكّل به ملكين فقال لهما: أسقما بدنه وضيّقا معيشته وعوّقا عليه مطلبه حتّى يدعوني فإنّي اُحبّ صوته، فإذا دعا قال: اُكتبا لعبدي ثواب ما سألني فضاعفاه له حتّى يأتيني، وما عندي خير له. وإذا أبغض عبداً وكّل به ملكين فقال: أصحّا بدنه، ووسّعا عليه في رزقه، وسهّلا له مطلبه وأنسياه ذكري فإنّي أبغض صوته حتّى يأتيني وما عندي شيء له"14.

ج. الابتلاء حماية من النار: عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ العبد المؤمن ليطلب الإمارة والتجارة، حتّى إذا أشرف من ذلك على ما كان يهوى بعث الله ملكاً، وقال له: عِقْ عبدي وصدّه عن أمر لو استمكن منه أدخله النار، فَيُقْبل الملك فيصدّه بلطف الله فيصبح وهو يقول: لقد دُهيت ومن دهاني فعل الله به، وقال: ما يدري أن الله الناظر له في ذلك ولو ظفر به أدخله النار"15.

قال أبو جعفر عليه السلام: "ما أُبالي أصبحت فقيراً أو مريضاً أو غنياً، لأنّ الله يقول: لا أفعل بالمؤمن إلاّ ما هو خير له"16.
 


83


عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قال الله عزّ وجلّ: "إنّ من عبادي المؤمنين لعباداً لا يصلح لهم أمر دينهم إلاّ بالغنى والسعة والصحة في البدن فأبلوهم بالغنى والسعة وصحة البدن، فيصلح لهم عليه اُمور دينهم.
وإنّ من عبادي المؤمنين لعباداً لا يصلح أمر دينهم إلاّ بالفاقة والمسكنة والسقم في أبدانهم فأبلوهم بالفاقة والمسكنة والسقم فيصلح لهم عليه أمر دينهم، قال: وقال الله تعالى: وأنا أعلم بما يصلح عليه أمر دين عبادي...
"17.

تعجيل تمحيص المؤمن:

عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام: قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: "توقّوا الذنوب فما من بليّة ولا نقص رزق إلاّ بذنب حتّى الخدش والنكبة18 والمصيبة فإنّ الله تعالى يقول: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ"19 20.

عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "ما من شيعتنا أحد يقارف أمراً نهيناه عنه فيموت حتّى يبتلى ببليّة تمحّص بها ذنوبه. إمّا في مال أو ولد وامّا في نفسه حتّى يلقى الله مخبتاً وما له من ذنب،


84


وانّه ليبقى عليه شيء من ذنوبه فيشدّد عليه عند موته فيمحّص ذنوبه"21.

عن أبي جعفر عليه السلام قال: "إن الله إذا كان من أمره أن يكرم عبداً وله ذنب ابتلاه بالسقم، فإن لم يفعل ذلك ابتلاه بالحاجة، فإن لم يفعل ذلك شدّد عليه الموت ليكافئه بذلك الذنب، وإذا كان من أمره أن يهين عبداً وله عنده حسنة صحّح بدنه، فإن لم يفعل ذلك به وسّع له في معاشه، فإن [هو] لم يفعل هوّن عليه الموت ليكافئه بتلك الحسنة"22.

عن عمر صاحب السابري قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: "إنّي لأرى من أصحابنا من يرتكب الذنوب الموبقة فقال لي: يا عمر لا تشنّع على أولياء الله، إنّ وليّنا ليرتكب ذنوباً يستحقّ (بها) من الله العذاب فيبتليه الله في بدنه بالسقم حتّى يمحّص عنه الذنوب، فإن عافاه في بدنه ابتلاه في ماله، فإن عافاه في ماله ابتلاه في ولده، فإن عافاه في ولده ابتلاه في أهله، فإن عافاه في أهله ابتلاه بجار سوء يؤذيه، فإن عافاه من بوائق الدهور شدّد عليه خروج نفسه حتّى يلقى الله حين يلقاه، وهو عنه راض، قد أوجب له الجنّة"23.
 


85


تنوّع تمحيص المؤمنين:
أ. المرض والألم:

عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "ما من مؤمن إلاّ وبه وجع في شيء من بدنه، لا يفارقه حتّى يموت، يكون ذلك كفّارة لذنوبه"24.
وعن جابر بن عبد الله قال: قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يمرض مؤمن ولا مؤمنة إلاّ حطّ الله به من خطاياه"25.

ب. التمحيص بالحزن والهمّ:

عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "لا تزال الغموم و الهموم بالمؤمن حتّى لا تدع له ذنباً"26.
عن أبي عبد الله عليه السلام: "إنّ العبد إذا كثرت ذنوبه ولم يكن عنده من العمل ما يكفّرها ابتلاه الله بالحزن ليكفّرها"27.
عن الحارث بن عمر قال:سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "إنّ العبد المؤمن ليهمّ في الدنيا حتّى يخرج منها ولا ذنب له"28.

ج. التمحيص بذهاب المال:

عن المفضّل قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "كلّما ازداد العبد إيماناً ازداد ضيقاً في معيشته"29.
 


86


عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "أكرم ما يكون العبد إلى الله أن يطلب درهماً فلا يقدر عليه. قال عبد الله بن سنان، قال أبو عبد الله عليه السلام هذا الكلام وعندي مائة ألف، وأنا اليوم ما أملك درهماً"30.
عن ابن مسلم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "المصائب منح من الله، والفقر عند الله مثل الشهادة، ولا يعطيه من عباده إلاّ من أحبّ"31.
عن المفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "مياسير شيعتنا اُمناء على محاويجهم، فاحفظونا فيهم يحفظكم الله"32.

فضل الرضى بالبلوى وترك الشكوى:

عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "ما من مؤمن إلاّ وهو مبتلى ببلاء، منتظر به ما هو أشدّ منه، فإن صبر على البليّة التي هو فيها عافاه الله من البلاء الذي ينتظر به، وإن لم يصبر وجزع نزل من البلاء المنتظر أبداً حتّى يحسن صبره وعزاؤه"33.

عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "من ابتُليَ من شيعتنا فصبر عليه كان له أجر ألف شهيد"34.
 


87


عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إنّ الله أنعم على قوم فلم يشكروا فصارت عليهم وبالاً، وابتلى قوماً بالمصائب فصبروا، فصارت عليهم نعمة"35.


88


 

هوامش

1- ابن همام الإسكافي، محمد بن همام بن سهيل‏، التمحيص‏، تحقيق وتصحيح ونشر مدرسة الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف، إيران - قم‏، 1404ه‏، ط1، ص 58.
2- سورة الأنبياء، الآية 35.
3- سورة الملك، الآيتان 1 – 2.
4- سورة البقرة، الآية 155.
5- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 255.
6- سورة العنكبوت، الآيتان 2 – 3.
7- المتقي الهندي، كنز العمال، مصدر سابق، ج 3، ص 130.
8- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 2، ص 252. العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 67، ص 200.
9- ابن همام الإسكافي، التمحيص‏، مصدر سابق، ص 30. العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 64، ص 239.
10- ابن همام الإسكافي، التمحيص‏، مصدر سابق، ص 31. العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 64، ص 240.
11- ابن همام الإسكافي، التمحيص‏، مصدر سابق، ص 31.
12- المصدر نفسه، ص 32.
13- المصدر نفسه، ص 55.
14- ابن همام الإسكافي، التمحيص‏، مصدر سابق، ص 56. عنه: العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 90، ص 371.
15- ابن همام الإسكافي، التمحيص‏، مصدر سابق، ص 57. عنه: العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 64، ص 243.
16- ابن همام الإسكافي، التمحيص‏، مصدر سابق، ص 57. عنه: العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 68، ص 151.
17- المصدر نفسه، ص 57.
18- البكة، خ، وفي البحار، الكبوة.
19- سورة الشورى، الآية 30.
20- ابن همام الإسكافي، التمحيص‏، مصدر سابق، ص 37. عنه: العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 70، ص 362.
21- المصدر نفسه، ص 38.
22- المصدر نفسه، ص 38.
23- المصدر نفسه، ص 39.
24- المصدر نفسه، ص 42. عنه: العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 64، ص 242.
25- المصدر نفسه، ص 43.
26- المصدر نفسه، ص 44. عنه: العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 64، ص 242.
27- المصدر نفسه، ص 44.
28- المصدر نفسه، ص 44.
29- المصدر نفسه، ص 45. الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 2، ص 261. عنه: العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 69، ص 49.
30- المصدر نفسه، ص 45.
31- المصدر نفسه، ص 46. عنه: العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 69، ص 50.
32- المصدر نفسه، ص 49. عنه: العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 93، ص 131.
33- المصدر نفسه، ص 59. عنه: العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 68، ص 94.
34- المصدر نفسه، ص 59. عنه: العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 68، ص 94.
35- المصدر نفسه، ص 60. عنه: العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 68، ص 94.