قال الإمامُ الحسنُ (عليه السلام): «عَجَبٌ لِمَنْ يَتَفَكَّرُ فِي مَأْكُولِهِ كَيْفَ لَا يَتَفَكَّرُ فِي مَعْقُولِهِ، فَيُجَنِّبُ بَطْنَهُ مَا يُؤْذِيهِ، وَيُودِعُ صَدْرَهُ مَا يُرْدِيهِ»[1].
الوقايةُ والحمايةُ منَ الأذى أمرٌ مزروعٌ في فطرةِ هذا الإنسان، فهو يسعى دائماً لدفعِ أيِّ أذًى قد يلحقُ بجسدِه، فيفكِّرُ في الطعامِ الذي يأكلُه، فإنْ عَلِمَ أنّ به أذًى اجتَنَبَهُ، ولم يُقْدِم على تناوُلِهِ، ولذا كان العجبُ مِنَ الإنسانِ الذي يتنبّهُ دائماً لحمايةِ جسدِهِ، ولكنّهُ يَترُكُ المجالَ لكلِّ الآفاتِ والمفاسدِ أن تَدخُلَ على عقلِهِ فتهدِمَ أركانَه!
إنّ الأهمَّ مِن حمايةِ الجسدِ حمايةُ العقل، وهو الأداةُ المحرِّكةُ لهذا الإنسان، والتي تتحكّمُ عادةً في مسارِ الإنسانِ وخياراتِه، فإنْ كانَ عقلُ الإنسانِ سليماً، كانت خياراتُهُ صائبة، وإلّا وَقَعَ في محذورِ الخياراتِ المودية به إلى الهلاك. وقد حدّثَنا القرآنُ الكريمُ عن أصحابِ السعيرِ عندما يبدو لهم سببُ هلاكِهِم، فقال: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾[2].
فالعقلُ هو البابُ الذي يَفتَحُ أمامَ الإنسانِ المجالَ أمامَ التفكُّرِ في آياتِ السمواتِ والأرض. قالَ تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾[3].
وإذا كانَ الإنسانُ يبحثُ عن الغنى في المالِ، فهو مخطئ؛ لأنَّ الغنى هو فيما وَصَفَهُ الإمامُ الكاظمُ (عليه السلام) بما رُويَ عنه: «مَنْ أَرَادَ الْغِنَى بِلَا مَالٍ، وَرَاحَةَ الْقَلْبِ مِنَ الْحَسَدِ، وَالسَّلَامَةَ فِي الدِّينِ؛ فَلْيَتَضَرَّعْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي مَسْأَلَتِهِ بِأَنْ يُكَمِّلَ عَقْلَهُ»[4].
وعن رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليه وآله): «صِفَةُ الْعَاقِلِ أَنْ يَحْلُمَ عَمَّنْ جَهِلَ عَلَيْهِ، وَيَتَجَاوَزَ عَمَّنْ ظَلَمَهُ، وَيَتَوَاضَعَ لِمَنْ هُوَ دُونَهُ، وَيُسَابِقَ مَنْ فَوْقَهُ فِي طَلَبِ الْبِرّ،ِ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ تَدَبَّرَ، فَإِنْ كَانَ خَيْراً تَكَلَّمَ فَغَنِمَ، وَإِنْ كَانَ شَرّاً سَكَتَ فَسَلِمَ؛ وَإِذَا عَرَضَتْ لَهُ فِتْنَةٌ اسْتَعْصَمَ بِاللَّهِ، وَأَمْسَكَ يَدَهُ وَلِسَانَهُ، وَإِذَا رَأَى فَضِيلَةً انْتَهَزَ بِهَا. لَا يُفَارِقُهُ الْحَيَاءُ، وَلَا يَبْدُو مِنْهُ الْحِرْصُ، فَتِلْكَ عَشْرُ خِصَالٍ يُعْرَفُ بِهَا الْعَاقِلُ»[5].
وهذا العقلُ له جنودٌ هي في حالةِ صراعٍ دائمٍ ومستمرٍّ مع جنودِ الجهل، وهو ما شرحَهُ الإمامُ الخمينيُّ في كتابِهِ (جنودُ العقلِ والجهل). يقولُ (قدّس سرّه): «يُعلَمُ مِن هذا الحديثِ الشريفِ أنَّ المؤمنينَ ذوي القلوبِ الصافيةِ المفتوحةِ لنورِ الإيمان، تجتمعُ فيها كُلُّ هذه الخصال، وأنّ سائرَ الناسِ الذين فيهِم واحدٌ مِن جنودِ العقلِ أو أكثرُ، يستطيعونَ بواسطةِ الرياضاتِ العلميّةِ والعمليّةِ أن يكمّلوا أنفسَهُم ويتنزّهوا عن جنودِ الجهل، ويتبرّأوا منها، ويتزيّنوا بجنودِ العقل، ويتحلَّوا بها، ويَصِلُوا إلى الدرجةِ العليا الكاملةِ في جوارِ الأنبياءِ والأولياء».
وفي روايةِ الإمامِ موسى بنِ جعفرٍ (عليه السلام): «يا هشام، إنّ اللهَ -تباركَ وتعالى- بَشَّرَ أهلَ العقلِ والفهمِ في كتابِهِ، فقال: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾[6]»[7].
ختاماً، نبارِكُ لصاحبِ العصرِ والزمانِ (عجّل الله فرجَه) ولولِيِّ أمرِ المسلمين، وللمجاهدينَ جميعاً، الولادةَ العطرةَ لكريمِ أهلِ البيتِ، الإمامِ الحسنِ المجتبى عليه السلام.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج1، ص218.
[2] سورة الملك، الآية 10.
[3] سورة آل عمران، الآية 190.
[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج1، ص18.
[5] الشيخ الحرّانيّ، تحف العقول، ص28.
[6] سورة الزمر، الآيتان 17-18.
[7] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج1، ص13.