المحاضرة الثالثة: قيمة الجهاد

الهدف:
التعرّف على القيمة الحقيقيّة للجهاد في سبيل الله.

تصدير الموضوع:

عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله تعالى أعزّ أمّتي بسنابك خيلها ومراكز رماحها"1.


111


مقدَّمة:
إنّ المشروع الإلهيّ لا بدّ من أن يصل إلى هدفه في آخر المطاف، بالرغم من كلّ الموانع والعوائق التي تقف أمامه؛ ولذا فإنّ خيارات المواجهة التي يمتلكها هذا المشروع لهي متنوّعة ومتعدّدة تتناسب مع كلّ واحدة من التهديدات التي تحاول إعاقة حركته أو حرفه عن مساره.

فإنّ دين التوحيد الذي يعتمد الأسلوب الناعم من خلال الحوار ولغة العقل والمنطق كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ2.

وهو الذي يقول: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ3.

وهو الذي قال: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا4.

وهو أيضاً يستعمل الأسلوب الصلب والخطاب القاسي إذا اقتضى الأمر، كما قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ


112


نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ5.

التنوّع في الأساليب

هذه الأساليب المتنوّعة هي الكفيلة بإعطاء القوّة وإضفاء العزّة لهذا الدّين الإلهيّ المقدّس، ليكمل مسيرته التكامليّة، وأمّا ركائز هذه الأساليب فهي ما تمّ تزويد الأنبياء به لتعزيز حركتهم من بيّنات وكتب وموازين وحديد، وهذا التنوّع والغنى في مصادر القوّة يساهم مساهمة فعّالة ومؤثّرة في استمراريّة المشروع الإلهيّ على مبدأي القوّة والعزّة. وأمّا اختيار الأسلوب الأنجع فإنّما هو بيد الأنبياء والأولياء، ويختلف باختلاف الظروف وأنماط التحدّيات وحجم التهديدات. وقد جُمعت هذه المصادر في آية واحدة من القرآن الكريم وهو قوله تعالى:﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ6.

وهنا كما نرى فإنّ، الحديد يشكّل مصدرين للقوّة، مصدراً للقوّة الاقتصاديّة وهي المنافع للنّاس، ومصدرًا للقوّة العسكريّة والمعبّر عنها بالبأس الشديد والذي يستعمل في الجهاد الأصغر في سبيل الله.


113


خصائص الجهاد:
إنّ للجهاد خصائص متعدّدة يجمعها تحصين الرسالة السماويّة ومنعتها، هذا من جانب ومن جانب آخر فإنّ الرؤوس الجامدة تعالجَ بالفؤوس الحادّة، كما فعل نبي الله إبراهيم عليه السلام حينما أحدث صدمة في مملكة النمرود بإقدامه على تكسير أصنامهم بفأسه التي ترمز إلى قوّته، وكما تلقّفت عصا موسى إفك فرعون وسحرته، وهكذا فعل عليّ ابن أبي طالب في رقاب المشركين والكفّار والمنافقين. وبنفس هذه الروح الجهاديّة التي كان يحملها الإمام الحسين عليه السلام تمكّن من تحصين رسالة جدّه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ أزال بدمه الزاكي صنميّة ووثنيّة بني أميّة من عالم الوجود.

وبناءً عليه فإنّ أي مجتمع من المجتمعات إذا أراد حماية وجوده وتحصين كيانه فلا بدّ له من أن يتّخذ الجهاد سبيلاً لذلك. وإلى ذلك أشار أمير المؤمنين عليه السلام في ديباجة خطبة الجهاد حيث قال: "وهو (الجهاد) لباس التقوى ودرع الله الحصينة وجُنته الوثيقة"، إلى تلك الخصائص يُضاف أشياء أخرى ترتبط بعزّة الأمّة وكرامتها والشعور بالحياة الحقيقيّة. ولذا فلو خُيِّر الأُباة بين حياة ذليلة وموت عزيز فلما تعدّوا العزّة إلى شيء آخر، وبعدها لم يفكّروا أنّه هو الموت أو الحياة, ولأجل ذلك رفع سيّد الشهداء شعاره في مسيرته الكربلائيّة: "الموت أولى من ركوب العار، والعار أولى من دخول النّار"7، وممّا يزيد الأمر وضوحًا ما جاء على لسان الإمام عليّ عليه السلام: "إنّ


114


الجهاد أشرف الأعمال بعد الإسلام، وهو قوام الدّين والأجر فيه عظيم مع العزّة والمنعة، وهو الكرّة، فيه الحسنات والبشرى بالجنّة بعد الشهادة"8.

النفير والتحريض

لقد شاع مصطلحا النفير والتحريض في القرآن الكريم وقد استعملهما في الجهاد في سبيل الله تعالى. وبما أنّ طبيعة العمل الجهاديّ تتطلَّب جهوزيّة دائمة وحضورًا سريعًا في الميدان حال توجيه الأمر للمجاهدين نلاحظ أنّ الخطاب القرآنيّ ينسجم تمامًا مع متطلّبات المعركة حتّى على مستوى اختيار الألفاظ واستعمال المصطلحات، ومنها مصطلح النفر فإنّ معناه الحضور السريع في ساحة الميدان والخروج للجهاد في سبيل الله تعالى بشتّى الوسائل والصور، فمنها النفير خفافًا وثقالًا كما في قوله تعالى:
﴿انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ9 ومنها النفر بثبات أو جميعاً كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا10.

وأمّا الذين يتخلّون عن الجهاد ولم ينفروا لأي سبب من الأسباب ومن دون عذر فهؤلاء سوف يعرّضون أنفسهم للمذلّة في الدنيا والآخرة، وسوف يؤدّي ذلك إلى تغيير هذا المجتمع المتثاقل إلى الأرض. وقد أشار الكتاب العزيز إليه بقوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ


115


انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ11.

ثمّ قال في آية أخرى:
﴿إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ12.

وأمّا التحريض فهو التحفيز وقال الجوهري، فإنّ التحريض على القتال هو الحثّ والإحماء عليه، وقد أشار إليه الكتاب العزيز كما في قوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ13.

ومن مصاديق التحريض ما فعله أمير المؤمنين في صفّين فقال: "لبئس لعمر الله سعر نار الحرب أنتم! تُكادون ولا تكيدون، وتُنقص أطرافكم فلا تمتعضون، لا يُنام عنكم وأنتم في غفلة ساهون"14. وقال في موطن آخر: "ضاربوا عن دينكم بالظُّبَي، وصِلوا السيوف بالخطى، وانتصروا بالله تظفروا وتُنصروا"15.

المرابطة والحراسة:

إنّ تواجد المجاهدين في الثغور لتوفير الأمن والأمان للبلاد وتأمين الحماية للنّاس لهو عمل عظيم وله من الآثار الدنيويّة والأخرويّة الكبيرة،


116


فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "لأن أحرس ثلاث ليال مرابطًا من وراء بيضة المسلمين أَحَبُّ إليَّ من أن تصيبني ليلة القدر في أحد المسجدين المدينة أو بيت المقدس"16.

وَوَجْهُ ذلك أنّ من تصيبه ليلة القدر أصاب رضًا لنفسه، بينما من يهيِّء أجواء الأمان ففيه رضاً لغيره، ولا بأس بالإشارة إلى شيء من الثواب المترتّب عليهما:
منها: ما له علاقة بصلاة المرابط، فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ صلاة المرابط تعدل خمسمائة صلاة"17.

ومنها: أفضل من الصيام والقيام: فعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "رباط يوم خير من صيام شهر وقيامه"18.

وعنه أيضاً: "حرس ليلة في سبيل الله عزَّ وجلّ أفضل من ألف ليلة يُقام ليلها ويصام نهارها"19.

وأمّا الآثار الأخرويّة: العين الساهرة في سبيل الله التي تبثّ الطمأنينة في نفوس الآخرين فيأوون إلى فرشهم ويرقدون في نوم عميق هي عين آمنة يوم القيامة، فلا يمسّها العذاب، فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "عينان لا تمسُّهما النّار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله"20.


117


ومن بركات الحراسة والمرابطة على الإنسان أنّ ما ينجزه منهما وحتّى لو انتهى عمله فسوف يستمرّ إلى يوم القيامة ولا ينقطع الثواب بالفراغ من العمل، فقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "كلّ عمل منقطع عن صاحبه إذا مات إلّا المرابط في سبيل الله فإنّه ينمى له عمله ويجري عليه رزقه إلى يوم القيامة"21.

ترك الجهاد:

هو أسرع شيء إلى إذلال الأمّة بسبب تخلّيها عن الجهاد، ويُضاف إلى محقّ الدّين والضرب على القلوب بالأسداد، فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "فمن ترك الجهاد ألبسه الله ذلًّا في نفسه وفقرًا في معيشته ومحقًا في دينه"22.

وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذلّ وشمله البلاء، ودُيِّثَ بالصِّغار والقماءة وضُرِب على قلبه بالأسداد وأديل الحقّ منه بتضييع الجهاد"23.


118


هوامش

1- بحار الأنوار، ج 100، ص 9.
2- سورة آل عمران، الآية64.
3- سورة النحل، الآية 125.
4- سورة الفرقان، الآية 63.
5- سورة التوبة، الآية 73.
6- سورة الحديد، الآية 25.
7- تفسير نور الثقلين، ج1، ص408.
8- وسائل الشيعة، ج15، ص 94.
9- سورة التوبة، الآية: 41.
10- سورة النساء، الآية 71.
11- سورة التوبة، الآية 38.
12- سورة التوبة، الآية 39.
13- سورة الأنفال، الآية 65.
14- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج2، ص 189.
15- غرر الحكم.
16- كنز العمّال، ج 10744.
17- كنز العمّال، ج10714.
18- كنز العمّال، 10510.
19- كنز العمّال، ح10730.
20- التاج، ج4، ص 336.
21- كنز العمّال، ح 10611.
22- بحار الأنوار، ج100، ص 9.
23- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج2، ص 72.
     
السابق الصفحة الرئيسة التالي