المحاضرة الثالثة: مقام المجاهدين

الهدف:
بيان مقام المجاهدين عند الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة.

تصدير الموضوع:

"إنّ صبر المسلم في بعض مواطن الجهاد يومًا واحداً خير له من عبادة أربعين سنة"1.


139


مقدّمة:
لكلّ إنسان أجل هو بالغه من دون أن يزيد فيه أو ينقص منه، وإذا جاء الموت فليس بإمكاننا ولا بإرادتنا أن نؤخّره ساعة أو نقدّمه، وكلّ هذا بيد الله سبحانه وتعالى ولا خيار لنا في هذا الإنقياد، نعم ما يقع تحت إرادتنا وما هو محكوم لإختيارنا هو أن نختار طريق الجهاد وأن نكون في صفوف المجاهدين بعد توطين أنفسنا على التحمّل والعناء في سبيل ذلك. وأيضًا نحن الذين نختار حياة الدعة ونفضّل حياة القعود على الجهاد، ولكن هيهات هيهات بين جسد يلامسه ثوب ناعم وبين بدن يشدّ عليه درع صلب، وأيضًا بين رأس يتوسّد وسادة صُنعت منه الرياش وبين من اتخذ التراب وسادة لنومه. ولا تستوي أكفٌّ تقبض على قائمة سيفها ولا عين ترمي ببصرها أقصى القوم مرابطة وحارسة، وبين أخرى تمسك بنرجيلة، أو عين تتنقل من شاشة إلى أخرى، وليعلم بأنّ الله تعالى يقول: ﴿لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا2 ويقول أمير المؤمنين عليه السلام: "فطوبى للمجاهدين"3، وليعلم أيضاً أنّ: "السيوف هي مقاليد الجنّة"4 لا شيء آخر، "وإنّ الغبار الذي يصيب المجاهدين في الدنيا لا يجتمع مع دخان جهنّم"5.


140


محاور الموضوع
أشباه الرجال:

من النعوت التي أطلقها أمير المؤمنين على فئة من الرجال الذين خلعوا درع الجهاد وآثروا الحياة السوداء (الذليلة) على الموت الأحمر (الشهادة) صفة أشباه الرجال لتخاذلهم و تواكلهم أمر الدفاع عن بلدهم وأعراضهم، ولم ينل أحدًا من المهاجمين كَلْمٌ ولا أُريق لهم دم بقوله: "يا أشباه الرجال ولا رجال حلوم الأطفال وعقول رباب الحجال"6، وقال عليه السلام عن الجبان: "لا يحلّ له أن يغزو لأنّ الجبان ينهزم سريعاً"7.

أوّل من قاتل ورفع راية:

إنّ شيخ الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام يُعتبر أوّل من قام وحارب في مواجهة الروم كما جاء في الرواية عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: "إنّ أوّل من قاتل في سبيل الله إبراهيم الخليل حيث أسرت الروم لوطا فنفر إبراهيم عليه السلام واستنقذه من أيديهم"8.

وكذلك يعتبر أوّل من عمل الرايات للتمييز بين المعسكر من جهة ولتحديد القادة من جهة أخرى في كلّ معسكر ويدلّ قول أمير


141


المؤمنين عليه السلام حيث قال: "أوّل من جاهد في سبيل الله ابراهيم عليه السلام أغارت الروم على ناحية فيها لوط عليه السلام فأسروه فبلغ ذلك ابراهيم فنفر واستنقذه من أيديهم وهو أوّل من عمل الرايات"9.

خير النّاس:

أفضل النّاس وأخيارهم هم الذين اتخذهم الله قوّة ووسيلة لإعلاء كلمته وتأييداً لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم وهذا من أرفع الأوسمة التي يتشرّف المجاهدون بحملها على جباههم وصدورهم، ومن جميل ما ذكر في القرآن قوله تعالى:
﴿وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ10 حيث جعل التأييد بالمؤمنين رديفًا للنصر الإلهيّ وفي أخرى هو يخاطب نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ11.


هذا في جبهة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأمّا في الجبهة الأخرى فقد أضاف القرآن الكريم لهم الأوسمة تلو الأوسمة حيث اعتبر أعدادهم واستعدادهم سببًا لإدخال الرهبة والرعب إلى قلوب أعداء الله وأعدائهم كما عبّر عن ذلك بقوله تعالى:
﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ


142


وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ12 وبالفعل يستحقّ المجاهدون مقام خير النّاس وأفضلهم كما أشار إلى ذلك رسول الله بقوله: "خير النّاس رجل حبس نفسه في سبيل الله يجاهد أعداءه يلتمس الموت أو القتل في مصافّه"13، وميزان المفاضلة بين العباد إنّما هو بلحاظ ثقل الأعمال، وبناءً عليه كانت ضربة عليّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين، ويدلّ عليه ما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما أعمال العباد كلّهم عند المجاهدين في سبيل الله إلّا كمثل خطاف أخذ بمنقاره من ماء البحر"14.

المجاهد وإحدى الحسنيين:

طالما أنّ المجاهد في سبيل الله قرّر في الخطوة الأولى أن يتاجر مع الله سبحانه وتعالى فممَّا لا شكّ فيه أنّ هذا القرار بحدّ ذاته هو الربح الأوّل والربح الأخير لا سيّما بعد موافقة المشتري على إتمام الصفقة، إذ المشتري هو الله سبحانه وتعالى، وهو الذي سوف يُنقد الحقّ، وهو الذي يقبض المعوَّض، وبيده سوف يسلّم العِوض، وقد جعل الوثيقة عن هذه الصفة في القرآن والإنجيل والتوراة ولا توجد صفة أكثر ربحاً من هذه التجارة حيث يقول? تعالى:
﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ


143


أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ15 وكذلك يشهد له ما رواه الإمام الباقر عليه السلام حيث قال: "أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنّي راغب نشيط في الجهاد، قال: فجاهد في سبيل الله، فإنّك إن تُقتل كنت حيّاً عند الله ترزق، وإن متَّ فقد وقع أجرك على الله، وإن رجعت خرجت من الذنوب"16، حتّى إنّ الصلاة التي يؤدّيها الرجل متقلّدًا سلاحه تختلف عن المجرّد من سلاحه، وسواء كان ذلك بلحاظ الأمور العلويّة أو بلحاظ مضاعفة أجر الصلاة، فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله عزَّ وجلّ يباهي بالمتقلّد بسيفه في سبيل الله وملائكته وهم يصلّون عليه ما دام متقلّده"17، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "صلاة الرجل متقلّداً بسيفه تفضل على صلاته غير متقلّد بسبعمائة ضعف"18.

المجاهدون والملائكة بين ساحتي الجهاد والقيامة:

كما تُفتح السماء للمجاهدين في دار الدنيا فإنّ كلّ شيء طلق لهم يوم القيامة، ولهم بابهم وسبيلهم وصراطهم وهو الثمن الذي سيقبضونه عوضًا عن أرواحهم التي باعوها لله سبحانه وتعالى، كما جاء في الحديث عن


144


رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "للجنّة باب يقال له: باب المجاهدين يمضون إليه فإذا هو مفتوح وهو متقلّدون سيوفهم والجمع في الموقف والملائكة ترحِّب بهم..."19.

وهنا نلاحظ أنّ الملائكة تنتظرهم للترحيب بقدومهم والمجاهدون يستعرضون الملائكة المنتظمة في صفوفها، وهناك ساحة أخرى يلتقي فيها المجاهدون والملائكة إنّما هي ساحة الجهاد في دار الدنيا، كما جاء في قوله تعالى:
﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ20.

إذ لديهم وظيفتان:
الأولى تثبيت المجاهدين في المعركة، والثانية الضرب فوق الأعناق والأيدي21.


145


هوامش

1- مستدرك الوسائل، ج2، ص 245.
2- سورة النساء، الآية 95.
3- شرح نهج البلاغة، ج3، ص184.
4- مستدرك الوسائل، ج2، ص 243.
5- مستدرك الوسائل، ج2، ص 143.
6- نهج البلاغة، خطبة الجهاد.
7- ميزان الحكمة، ج1، ص 446.
8- مستدرك الوسائل، ج2، ص 242، والوسائل، ج11، ص110.
9- مستدرك الوسائل، ج2، ص 266.
10- سورة الأنفال، الآية 62.
11- سورة الأنفال، الآية 64.
12- سورة الأنفال، الآية 60.
13- مستدرك الوسائل، ج2، ص 244.
14- كنز العمّال، ح 10681.
15- سورة التوبة، الآية 111.
16- تفسير نور الثقلين، ج1، ص 409.
17- كنز العمّال، ح 10787.
18- كنز العمّال، ح 10791.
19- بحار الأنوار، ج100، ص 9.
20- سورة الأنفال، الآية12.
21- سورة الأنفال، الآية: 12.
     
السابق الصفحة الرئيسة التالي