المحاضرة الثانية: اللسان وحرمة الكذب

الهدف:
بيان أنّ الكذب مُسقط للمرء عند الله تعالى وعند النّاس وعند نفسه.

تصدير الموضوع:

"لا خير في علم الكذّابين"1.


129


مقدّمة:
الكذّاب هو من خالف قوله الواقع أو اعتقاده، وكلّنا يعلم أنّه ربّما ينكشف كذبه بالإطلاع على الواقع أو يظهر على فلتات لسانه ما أضمره وفي أكثر الأحيان يعلم الكذّاب بعلم النّاس بكذبه وهو دائماً يعلم بكذب نفسه ومع هذا فلا يردع نفسه عن الكذب، وهنا يتساءل المرء عن الربح الذي يجنيه الكذّاب من كذبه؟ وما العلّة التي تجعله كذّاباً؟ ففي الجواب أنّ الشعور بحقارة النّفس يجعل صاحبه يسد هذا الشعور ويغطي ذلك النقص بالتعمية على الآخرين فتجعل منه كذّاباً وربّما يعتقد أنّه حينما يحاول أن يصنع لنفسه عرشاً في مخيّلات الآخرين أنّه يكسبه الإحترام والتقدير وكلّ ذلك منشأه ذلّة نفسه ومهانتها، ويدلّ عليه ما جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: "لا يكذب الكاذب إلّا من مهانة نفسه"2.

وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "الكاذب مهان ذليل"3.

وقال: "الكاذب على شفا مهواة ومهانة"4.


130


الكذب مفتاح الآثام:
الكذّاب بيده مفتاح كلّ الآثام صغيرها وكبيرها، وهو طريق يوصل صاحبه إلى الفجور ومن أراد المعالجة للتخلّص من الموبقات فعليه أن يبدأ بالتخلّي عن ملكة الكذب، فعن الإمام العسكريّ عليه السلام قال: "جعلت الخبائث كلّها في بيت وجعل مفتاحه الكذب"5.

والوجه في ذلك هو أنّ الكذّاب له قابليّة أن يرتكب أي ذنب، وبالفعل قد يرتكب بعض الكبائر وهو في قرارة نفسه وفي مرحلة نصف اللاوعي يعتبر أنّه بإمكانه تغطيتها وتعميتها على النّاس بالكذب، وبما أنّ حبل الكذب قصير فما يلبث وأن يفتضح أمام الآخرين ويشير إلى هذا المعنى ما جاء في الرواية أنّ رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا يا رسول الله أستسرَّ بخلال أربع، الزنا وشرب الخمر والسرق والكذب فأيتهن شئت تركتها لك!! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "دع الكذب"، فلما ولَّى همَّ بالزنا، فقال: يسألني فإن جحدت نقضت ما جعلت له، وإن أقررت حددت، ثم همَّ بالسرق، ثمّ بشرب الخمر، ففكّر في مثل ذلك، فرجع إليه فقال قد أخذت عليّ السبيل كلّه، فقد تركتهن أجمع6.


131


الإيمان والكذب:
المؤمن لا يكذب والكذّاب لا يكون مؤمناً حينما يكذب، فلا يقال مؤمن كذّاب فإذا ثبت إيمانه لا يمكن أن يكذب وإن ثبت كذبه انتفى عنه صفة الإيمان، فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يُطبع المؤمن على الخلال كلّها إلّا الخيانة والكذب"7.

وجاء في رواية أخرى عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "كثرة الكذب تمحو الإيمان"8.

فكما أنّ طبع المؤمن لا ينسجم مع الكذب فكذلك لا ينسجم مع الخيانة وكأنّهما من سنخيّة واحدة، فعن الإمام عليّ عليه السلام قال: "الكذب خيانة"9، وقد روى الحسن بن محبوب قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام يكون المؤمن بخيلا؟ قال: "نعم"، قلت يكون كذّاباً؟! قال: "لا، ولا خائناً"، ثمّ قال: "يجبل المؤمن على كلّ طبيعة إلّا الخيانة والكذب"10. وأمّا بيان وحدة الطبيعة بينهما ما جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: "كبرت خيانة أن تحدّث أخاك حديثاً هو لك مصدّق وأنت به كاذب"11.


132


الكذبة نتنة الرائحة:
إنّ لكلِّ عمل صورة برزخيّة، فلا يراها الإنسان في عالم الدنيا. نعم عندما تبلى السرائر فسوف يرى كلّ إنسان ببصره الحديديّ الصور الحقيقيّة لكلّ صفة كان يحملها ولكلّ عمل فعله في الدنيا، من جملة ذلك أنّ الكذبة ذات رائحة نتنة لا يحتملها أيّ ملك من الملائكة، فقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من طريق الفريقين: "إذا كذب العبد كذبة تباعد الملك منه مسيرة ميل من نتن ما جاء به"12.

الكذب في النّار

لقد أشرنا آنفاً إلى أنّ الكذب مفتاح الشرور والآثام، ومن ارتكبها فسوف يكون مصيره نار جهنّم وينبّه على ذلك ما جاءت به الأخبار من أنّ الكذب يهدي إلى الفجور والفجور في النّار، منها ما جاء في كتب الفريقين عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "إيّاكم والكذب فإنّه مع الفجور وهما في النّار"13، وكذلك جاء في الرواية بأنّ رجلاً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، قال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما عمل النّار؟! قال: "الكذب، إذا كذب العبد فجر وإذا فجر كفر وإذا كفر دخل النّار"14.


133


لا تمكّن الغواة من سمعك:
فكما أنّ الكذب حرام فإنّ الإستماع إلى الكذب منهيّ عنه أيضاً، فإنّ الله سبحانه وتعالى كما عاب على الكذّابين أيضاً عاب على من يستمع إلى الكذب حيث قال ﴿وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ15  وأيضاً سُئل الإمام الصادق عليه السلام عن القُصَّاصِ: أيَحِلُّ الإستماع لهم؟ فقال: "لا"، وقال عليه السلام: "من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس"16.

وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "لا تمكِّن الغواة من سمعك"17.

أدنى الكذب وأقبحه:

الكذب مفهوم مشكّك، يختلف شدّة وضعفاً كالظلمة فهي واحدة، نعم قد تشتدّ على المرء إلى درجة لا يعودُ يرى أمامه. أو تكون ضعيفة بإمكانه أن يرى الحقائق أشباحاً ولذا لا يوجد عندنا كذبة صغيرة وكبيرة بل الموجود كذبة قد تضعف وقد تشتدّ، فإنّ أدناه نوع من الفحش وضرب دناءة، كما في الحديث عن مولى المتّقين عليه السلام حيث قال: "تحفّظوا من


134


الكذب، فإنّه من أدنى الأخلاق قدراً وهو نوع من الفحش، وضرب من الدناءة"18.

وأمّا أقبحه فحينما يصبح شديداً ليصل إلى مرحلة الإفك والإفتراء، لا سيّما إذا كان الإفتراء على الله سبحانه وتعالى، وقد أشار القرآن الكريم في مجموعة من آياته الشريفة إلى هذا النوع من الكذب كما في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ19 وهذا التصرّف القبيح تمّ التعبير عنه في الآيات بصفة الإستفهام الإنكاريّ بقوله كما في هذه الآية ومن أظلم؟ وما يكونون عليه يوم القيامة هو اسوداد وجوههم كما في قوله تعالى ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ20.

ومن هنا ذكر الفقهاء أنّ الكذب على الله سبحانه وتعالى يكون حراماً وهو سبب لإفطار الصائم وكذلك الإفتراء على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام فهو حرام ويؤدّي إلى الإفطار. ولعظمة الكذب عليهم يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "فوالله لأن أخرَّ من السماء أو يخطفني الطير أحبّ


135


إلي من أن أكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"21.

وممّا جاء في وصايا الإمام السجّاد عليه السلام لولده: "اتقوا الكذب في الصغير والكبير... فإنّ الرجل إذا كذب في الصغيرة أجترأ على الكبيرة"22.

اتقوا الكذب جِدَّه وهزله:

لا فرق في قبح الكذب وفجوره سواء كان المرء في حالة الجدّ أم في حالة الهزل، والغاية لا تبرّر الوسيلة الفاسدة كالكذب، فعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "لا يصلح من الكذب جدُّ ولا هزلٌ ولا أن يعد أحدكم صَبيَّه ثمّ لا يفي له"23. وكذلك جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوعيد عليه في كلا حالتيه حيث قال: "ويل للذي يحدّث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له ويل له"24.

لا تحدِّث بكلّ ما سمعت:

من الأمور ذات الصلة بالكذب وينبغي للمؤمن أن يلتفت إليها هو أن يحدِّث الآخرين بكلّ شيء يسمعه من الآخرين، وهذا الفعل نُزِّل منزلة الكذب حتّى ولو كان صادقاً في نقل ما سمعه، ويدلّ عليه ما جاء في كتاب أمير المؤمنين عليه السلام إلى الحارث الهمدانيّ فقال: "... ولا تحدّث


136


النّاس بكلّ ما سمعت به، فكفى بذلك كذباً"25.

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "حسبك من الكذب أن تحدّث بكلّ ما سمعت"26.

ومن أراد أن يحدّث ببعض ما سمع فليكن ممّن سمعه من الثقات، كما عن عليّ عليه السلام: "لا تحدّث عن غير ثقة فتكون كذّاباً"27.

والجدير ذكره أنّ الكذّاب قد يصدق حيناً ولكنّه لكذبه لا خير في علمه كما جاء عن الإمام عليّ عليه السلام: "لا خير في علم الكذّابين"28.

آثار الكذب

هذه الآثار هي مفاد الآيات والروايات،منها الكذّاب لا يهتدي، وهو منافق وخائن ومهان في الدنيا ومعذّب في النّار، ووجهه أسود ويذهب بهاؤه ويفسد الإيمان، وفساد كلّ شيء وعار ولا مروءة له ومتّهم والميت خير منه وحميته ضعيفة وينقص الرزق ويورث الفقر وغيرها.


137


هوامش

1- غرر الحكم.
2- بحار الأنوار، ج 77، ص 217.
3- غرر الحكم.
4- غرر الحكم.
5- بحار الأنوار، ج 78، ص 377.
6- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج6، ص 357.
7- الترغيب والترهيب، ج3، ص 595.
8- بحار الأنوار، ج72، ص 259.
9- بحار الأنوار، ج 72، ص 261.
10- بحار الأنوار، ج 75، ص 172.
11- تنبيه الخواطر، ص 92.
12- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج6، ص 357.
13- تنبيه الخواطر، ص 92.
14- الترغيب والترهيب، ج3، ص 592.
15- سورة المائدة، الآية 41.
16- بحار الأنوار، ج72، ص264.
17- نهج البلاغة، كتاب 10.
18- بحار الأنوار، ج78، ص 64.
19- سورة الأنعام، الآية 93.
20- سورة الزمر، الآية 60.
21- وسائل الشيعة، ج11، ص 102.
22- بحار الأنوار، ح72، ص 235.
23- بحار الأنوار، ج72، ص 259.
24- تنبيه الخواص، ص 92.
25- نهج البلاغة، كتاب 69.
26- تنبيه الخواص، ص362
27- بحار الأنوار، ج78، ص 10.
28- غرر الحكم.
     
السابق الصفحة الرئيسة التالي