المحاضرة الثانية: ثقافة القناعة

الهدف:
أهمّيّة نموّ ملكة القناعة في النّفس لبلوغ درجة الغنى.

تصدير الموضوع:

قال أمير المؤمنين عليه السلام: "طلبت الغنى فما وجدته إلّا بالقناعة عليكم بالقناعة تستغنوا"1، وعن الإمام الرضا عليه السلام: "لا يسلك طريق القناعة إلّا رجلان: إمّا متعبّد يريد أجر الآخرة أو كريم متنزّه عن لئام النّاس"2.


155


مقدّمة:
الفَقْرُ والفُقْر ضدّ الغنى مثل الضعف والضُعف وعن الليث: الفُقْر لغة رديئة، وعن ابن سيده: وقدْرُ ذلك أن يكون له ما يكفي عياله، وعن ابن السكّيت: الفقير الذي له بُلْغة من العيش، وقال ابن عرفة: الفقير عند العرب المحتاج، قال الله تعالى: ﴿أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ أي المحتاجون.

والغنى ضدّ الفقر، هذا لغويّاً وأمّا شرعاً، فالفقير هو الذي لا يملك قوت سنته، وأمّا الغني فهو ما زاد عنده عن قوت سنته.

وإنّما تحدّثنا عن الفقر والغنى ولكن باعتبار أنّهما نتيجتان طبيعيّتان للقناعة تمّ التعرّض لهما، وهنا فإنّ كلّ من رضي بما قسم الله له من الرزق فهو قنوع ويكتفي به من دون أن يلتفت إلى ما في أيدي النّاس فضلاً عن أن يمدّ يده إليهم فإنّ هذا وأمثاله وإن كان فقيراً بالمعنى الشرعيّ أي لا يمتلك قوت سنته إلّا أنّه غنيّ بالمعنى الأخلاقيّ أي يحافظ على عزّة نفسه ولا يستذلّها بالإنقياد إلى الآخرين. ومقابل ذلك فقد نجد أنّ الكثير من أصحاب الثروات الطائلة فإنّهم لا يقفون عند حد لإشباع غريزة حبّ المال عندهم، وهم أحرص النّاس على جمعه، فهؤلاء وإن كانوا أغنياء بالمصطلح الشرعيّ إلّا أنّهم فقراء أخلاقيّاً لأنّ الواحد منهم نفسُه منهومة لا تشبع، ولذا تجده أحياناً يعرّض نفسه للمذلّة مقابل أن يحصل على دراهم معدودة وعلى ضوء ذلك نقول: إنّ الفقير فقيران والغني غنيان، فقير لا يملك مالاً وفقير هو مملوك للمال الذي يمتلكه، وغنيّ يملك مالاً وغنيّ لا


156


يملكه المال لقنوعه بما قسم الله، وأحياناً يصبح مِلكاً وهو صاحب كنوز، بينما أولئك أرقّاء لا يأتون بخير أينما كان توجههم.

وعلى هذا المعنى تضافرت الروايات الكثيرة منها: "كفى بالقناعة ملكاً"3 "القناعة تغني"4، "القناعة غنيّة"5، "القانع غني وإن جاع وعرى"6، "لا كنز أغنى من القناعة"7، "من قنع بما رزقه الله فهو من أغنى النّاس"8.

محاور الموضوع
الحياة الطيّبة:

كلّ إنسان يسعى إلى حياة طيّبة يسعد فيها، ولكن المشكلة التي تواجه الكثيرين في تشخيص هذه الحياة أن يعتبر البعض أنّها تتحقّق بجمع المال وكثرته، بخلاف آخرين، فقد يعتبرونها تكمن في القناعة، ومن النماذج التي نجدها في القرآن الكريم حينما خرج قارون في زينته على النّاس فقد انقسموا إلى فئتين وهما: الفئة التي تريد الحياة الدنيا والفئة التي أوتيت العلم، فالفئة الأولى قالت: ﴿يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ


157


عَظِيمٍ. وأمّا الفئة الثانية فقالت: ﴿وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ9.

وأمَّا حقيقة الحياة الطيّبة وجوهرها فهما القناعة، ويدلّ عليه ما جاء في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام حينما سئل عن قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ10 فقال: "هي القناعة"، ومن هنا فإنّ طالبي المال لا يجدون طعم الحياة الطيّبة.

كيف نربّي أنفسنا على القناعة؟

القناعة صفة نفسانيّة تتحصَّل في النّفس وتنمو إلى أن تصبح ملكة راسخة، وهي تفتقر إلى مجاهدة النّفس كأيّ صفة أخلاقيّة يرغب الإنسان بالتحلّي بها، ولكي يحصل الإنسان عليها فلا بدّ من إزالة صفات بالترويض والتهذيب، والذي يحول دون تحلِّي النفس بها الطمعُ والحرصُ وعدم العفّة، وطبيعة الإنسان إذا ازداد طمعه بالاستكثار من جمع المال أو حرصه على ماله من النفاذ أو لم ينزه نفسه عن المذلّة بمدّ يده إلى الآخرين فحينئذٍ تكون جميع السبل مقفلة أمام حلول القناعة في النّفس، ولذا لا بدّ وأن يبدأ المرء بإزالة هاتيك الصفات أوّلاً، وإلى ذلك أشار الإمام الباقر عليه السلام بقوله: "أنزل ساحة القناعة باتقاء الحرص


158


وادفع عظيم الحرص بإيثار القناعة"11. وعن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام قال: "لن توجد القناعة حتّى يفقد الحرص"12، وهنا توجد مجموعة من الوصايا التي تفضَّل بها الإئمّة عليهم السلام في مقام تربية النّفس على صفة القناعة، فقد ورد أنّ رجلًا شكا إلى أبي عبد الله عليه السلام أنّه يطلب فيصيب ولا يقنع، وتنازعه نفسه إلى ما هو أكثر منه وقال: علّمني شيئًا أنتفع به، فقال أبو عبد الله عليه السلام: "إن كان ما يكفيك يغنيك، فأدنى ما فيها يغنيك، وإن كان ما يكفيك لا يغنيك فكلُّ ما فيها لا يغنيك"13.

وأمّا كيف يغنى بما يكفيه، فمثال ذلك ما رواه الإمام الباقر عليه السلام قال: "أكل عليّ من دَقَل (اردأ التمور) ثمّ شرب عليه الماء، ثمّ ضرب على بطنه وقال: من أدخله بطنه النّار فأبعده الله"14.

وممّا يساهم في بناء ملكة القناعة في النّفس أن يتخلّى عن أمرين:
الأوّل: لا ينظر إلى ما عند الغير.
الثاني: لا يتمنّى ما لم ينله.

وإليهما أشارت الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام فقال: "اقنع بما قسم الله لك ولا تنظر إلى ما عند غيرك ولا تَتَمَنَّ ما لست نائله، فإنّه من قنع شبع ومن لم يقنع لم يشبع وخذ حظّك من آخرتك"15.


159


القناعة باليسير تغنيه عن الكثير
هذه معادلة طبيعيّة بين القناعة والغنى كما أشرنا إليها آنفاً والذي يجدر الإشارة إليه أن من يقنعه اليسير فإنّه يستغني عن الكثير وأمّا من لم يقنعه اليسير فلا ينفعه الكثير، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "من لم يقنعه اليسير لم ينفعه الكثير"16، وفي مورد آخر قال: "من كان بيسير الدنيا لا يقنع، لم يغنه من كثيرها ما يجمع"17. إذن المعيار الأساسيّ للحياة السعيدة الكفاف والإكتفاء برزقه المقسوم وإلّا فلو اجتمع عليه مال الدنيا فلا يكفيه ولا يكفّ نفسه عن النظر إلى ما عند الآخرين، فهذا أمير المؤمنين عليه السلاميخاطب ابن آدم بقوله كما روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "ابن آدم إن كنت تريد من الدنيا ما يكفيك فإنّ أيسر ما فيها يكفيك، وإن كنت إنّما تريد ما لا يكفيك فإنّ كلّ ما فيها لا يكفيك"18.

ثمرة القناعة وآثارها

ممّا لا شكّ فيه أنّ للقناعة ثماراً وآثاراً عظيمة على باطن القانع وظاهره وفي دنياه وآخرته:
فمن الآثار الباطنيّة: النزاهة والعفاف، فعن أمير المؤمنين قال: "من قنعت نفسه أعانته على النزاهة والعفاف"19، ومنها عزّة النّفس فعنه عليه السلام: "من عزّ الأنفس لزوم القناعة"20.


160


ومنها العزوف عن الطلب، فعنه عليه السلام: "ثمرة القناعة الإجمال في المكتسب والعزوف عن الطلب"21.

ومنها: راحة الأبدان وإزالة الغمّ من النّفس، فعن الإمام الحسين عليه السلام قال: "القنوع راحة الأبدان"22، "من قنع لم يغتمّ"23.

وأمَّا عن آثارها في الدّين والدنيا: فيقول أمير المؤمنين عليه السلام: "اقنعوا بالقليل من دنياكم لسلامة دينكم فإنّ المؤمن البلغة اليسيرة من الدنيا تقنعه"24.

وأيضاً: فإنّ العيش الهانئ في الدنيا لا يتمّ إلّا بالقناعة؛ فعن الإمام عليّ عليه السلام قال: "أنعم النّاس عيشاً من منحه الله سبحانه القناعة وأصلح له زوجه"25.

وقال: "القناعة أهنأ عيش"26، وأمَّا عن ثمارها في الآخرة فيقول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "أقنع بما أوتيته يخفّ عليك الحساب"27.


161


هوامش

1- بحار الأنوار، ج 69، ص 399.
2- بحار الأنوار، ج 78، ص 349.
3- نهج البلاغة، قصار الحكم، 229.
4- غرر الحكم.
5- بحار الأنوار، ج78، ص 10.
6- غرر الحكم.
7- بحار الأنوار، ج69، ص 399.
8- بحار الأنوار، ج77، ص 45.
9- سورة القصص، الآية: 79 80.
10- سورة النحل، الآية 97.
11- بحار الأنوار، ج78، ص 163.
12- غرر الحكم.
13- الكافي، ج2، ص 139.
14- كنز العمّال، ح 8741.
15- الكافي ج8، ص 243.
16- بحار الأنوار، ج 78، ص 71.
17- غرر الحكم.
18- الكافي، ج2، ص 138، ح6.
19- غرر الحكم.
20- غرر الحكم.
21- غرر الحكم.
22- بحار الأنوار، ج78، ص 128.
23- غرر الحكم.
24- غرر الحكم.
25- غرر الحكم.
26- غرر الحكم.
27- بحار الأنوار، ج77، ص 187.
     
السابق الصفحة الرئيسة التالي