المحاضرة الثالثة: البرزخ روضة المؤمن قبل الجنّة وحفرة الكافر قبل النّار

الهدف:
إيضاح فكرة البرزخ وتبيان معالم أهمّ محطّات الإنسان بعد الموت

تصدير الموضوع:
﴿لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ1، ورد عن الإمام زين العابدين عليه السلام في تفسيرها، قال: "هو القبر، وإنّ لهم فيه لمعيشة ضنكاً، والله إنّ القبر لروضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النيران"2.


187


قال الإمام الصادق عليه السلام: "البرزخ القبر، وهو الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة"3.

مقدّمة
إنّ البرزخ أوّل طلائع الجزاء الأوفى والثواب الأكبر التي ستلاقي المؤمن جزاء أعماله الإيمانيّة، وما سوف يلاقيه الفاسق والكافر من عذابات القبر من الضغطة والوحشة والحساب والظلمة وجزاء أعماله السيّئة التي كانت تملأ حياته وساعته.

البرزخ تبعات حصاد زرع الدنيا، عذاب القبر مرحلة من مراحل البرزخ وهو العالم الذي سيدخله الإنسان لينال جزاء تبعات أعماله، لأنّ للحسنات التي فعل جزاء وثواباً وللسيّئات التي ارتكب عقاباً على فعلها، هذا موكول ليوم الجزاء الأوفى وهو القيامة، وأمّا قبلها لا حساب ولا جنّة ولا نار، إنّما ينال المؤمن في البرزخ حصّة من نعيم يوم القيامة، وذلك بسبب تبعات أعمال الخير التي ارتكب، والكافر أو الفاسق كذلك ينال حصّة من جزاء تبعات أعماله السيّئة، قال تعالى: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ4


188


ضغطة القبر وصعوبتها، إنّ الأمور بعد الحياة الدنيا وفي البرزخ ستكون أموراً معنويّة أي لم يعد للجسد الدنيويّ من دور يتحسّس به الألم أو الوجع، بل ينصبّ كلّ ما سوف يلاقيه الإنسان في البرزخ على الروح والجسد الآخر الذي سيناسب ذاك العالم، عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "لا يأتي على الميِّت ساعة أشدّ من أوّل ليلة، فارحموا موتاكم بالصدقة، فإن لم تجدوا فليصلِّ أحدكم ركعتين يقرأ فيهما فاتحة الكتاب مرّة وآية الكرسي مرّة، وقل هو الله أحد مرّتين، وفي الثانية فاتحة الكتاب مرّة وألهاكم التكاثر عشر مرّات ويسلِّم ويقول: اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد وابعث ثوابها إلى قبر ذلك الميت فلان بن فلان، فيبعث الله مِن ساعته ألف ملك إلى قبره مع كلّ ملك ثوب وحلّة ويوسع في قبره من الضيق إلى يوم ينفخ في الصور، ويعطى المصلّي بعدد ما طلعت عليه الشمس حسنات ويرفع له أربعون درجة"5.

وورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إنّ للقبر ضغطةً لو كان أحد ناجيًا منها لنجا سعدُ بن معاذ"6 .

عذاب القبر وشدّته،
كما ذكرت فإنّ عذاب القبر هو بسبب تبعات أعمالنا في الدنيا، فمثلاً المؤمن فإنّه يفرح في البرزخ ويتنعّم، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم


189


قَالَ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ فِي قَبْرِهِ لَفِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ،وَيُرْحَبُ لَهُ قَبْرُهُ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَيُنَوَّرُ لَهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، أَتَدْرُونَ فِيمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى7، أَتَدْرُونَ مَا الْمَعِيشَةُ الضَّنْكَةُ"؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: "عَذَابُ الْكَافِرِ فِي قَبْرِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُ يُسَلَّطَ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنِّينًا، أَتَدْرُونَ مَا التِّنِّينُ؟ سَبْعُونَ حَيَّةً، لِكُلِّ حَيَّةٍ سَبْعُ رُؤوسٍ يِلْسَعُونَهُ، وَيَخْدِشُونَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"8.

وحشة القبر، إنّ وحشة القبر نسبية وكما أنها وحشة للبعض فهي أنس للبعض الآخر، وذلك بحسب الأعمال التي أتى بها في الدنيا, لأنّ ما يلاقيه في القبر إنّما هو تبعات الأعمال الدنيويّة فحسب. ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا وضع الميت في قبره مثل له شخص فقال له: يا هذا كنّا ثلاثة، كان رزقك فانقطع بانقطاع أجلك، وكان أهلك فخلّفوك وانصرفوا عنك، وكنت عملك فبقيت معك، أما إنّي كنت أهون الثلاثة عليك"9. عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقيس بن عاصم وهو يعظه: "إنّه لا بدّ لك يا قيس، من قرين يُدفن معك وهو حيّ، وتدفن معه وأنت ميت، فإن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، ثمّ لا يحشر إلّا معك، ولا تبعث إلّا معه، ولا تسأل إلّا عنه، ولا تجعله إلّا صالحاً، فإنّه إن صلح آنست به، وإن فسد لا تستوحش إلّا منه، وهو فعلك"10.


190


أعمال خير ندفع بها عن أنفسنا صعوبات القبر، وهذه الأعمال إمّا أن نقوم بها نحن قبل موتنا، أو تُفعل لنا بعد موتنا.

أمّا الأولى:
فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "ستّ خصال ينتفع بها المؤمن من بعد موته: ولد صالح يستغفر له، ومصحف يقرأ فيه، وقليب11 يحفره، وغرس يغرسه، وصدقة ماء يجريه، وسنّة حسنة يؤخذ بها بعده"12.

والثانية: فعل الغير لك، كما ورد أنّ عيسى بن مريم مرَّ بقبر يُعذَّب صاحبه، ثمّ مرَّ به من قابل فإذا هو ليس يُعذَّب، فقال: يا ربّ، مررت بهذا القبر عام أوّل فكان صاحبه يُعذَّب، ثمّ مررت به العام فإذا هو ليس يُعذَّب، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا روح الله، إنّه أدرك له ولد صالح فأصلح طريقاً وآوى يتيماً فغفرت له بما عمل ابنه13. وكذا ورد: مرَّ النبيّ بقبر دُفن فيه بالأمس إنسان وأهله يبكون، فقال: "لركعتان خفيفتان ممّا تحتقرون أحبّ إلى صاحب هذا القبر من دنياكم كلّها"14، وهناك أمور كثيرة ذكرت في مظانّها فلتراجع.

لو عرفنا الأسباب لسَهُل علينا كسب الثواب، أسباب عذاب القبر وما يلاقيه المرء في القبر كما وردت تتلخّص في ثمانية: هجران القرآن الكريم،


191


عدم التنزّه من البول، الغيبة، النميمة، الربا، الرياء، عقوق الوالدين، سوء الخُلُق.

أرواح المؤمنين في البرزخ:
تتلاقى وتتنعّم وتتزاور، كما ورد عن أبي عبد الله عليه السلام عند ذكر أرواح المؤمنين، فقال: "يلتقون"، قلت: يلتقون؟ فقال: "نعم، ويتساءلون ويتعارفون حتّى إذا رأيته قلت: فلان"15، وعنه عليه السلام: "أرواح المؤمنين في حجرات في الجنّة، يأكلون من طعامها، ويشربون من شرابها، ويتزاورون فيها، يقولون: ربّنا، أقم لنا الساعة لتنجز لنا ما وعدتنا"16.


192


هوامش

1- سورة المؤمنون، الآية:100.
2- بحار الأنوار، ج 78، ص 148.
3- تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 553.
4- سورة السجدة، الآية:21.
5- بحار الأنوار، ج 88، ص 219.
6- صحيح الجامع، 2180.
7- سورة طه، الآية:124.
8- صحيح ابن حبّان، كتاب الجنائز.
9- بحار الأنوار، ج 6، ص 265.
10- بحار الأنوار، ج77، ص 175.
11- القليب، البئر في تلك الأيام وفي عصرنا هو سبيل الماء.
12- بحار الأنوار، ج 6، ص 294.
13- بحار الأنوار، ج 6، ص 220.
14- ميزان الحكمة، ج 8، ص 13.
15- المحاسن، ج1، ص 285.
16- المحاسن، ج1، ص 561.
     
السابق الصفحة الرئيسة التالي