المحاضرة الأولى: الدور العائليّ الرساليّ في ضوء مفاهيم كربلاء

الهدف:
بيان الدور العائلي الرساليّ في ضوء القرآن الكريم ومفاهيم كربلاء.

تصدير الموضوع:

"لا يزال المؤمن يورث أهل بيته العلم والأدب الصالح حتّى يدخلهم الجنّة".
                                                                         الإمام الصادق عليه السلام1.


195


مقدّمة:
في زماننا الحاضر يواجه مجتمعنا مجموعةَ مخاطر، فمن جهة يرزح جزء منه تحت الإحتلال العسكريّ، ومن جهة أخرى يواجه حرباً ناعمة تستهدف ثقافته لتغيير هويّته ولحرف سلوكه، وهي حرب أخطر من الأولى، لأنّها تسلّط الأعداء على النّفوس وتمكّنهم من العقول ممّا يسهّل عليهم الهيمنة التامّة على الثروات والقابليّات، يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ الثقافة التي رسم خطوطها الأجانب وأملوها على شعبنا لهي أخطر من سلاح الجبابرة لأنّها تقدّم للأمّة شباباً يملكون قابليّة الاستعمار، ومن المعلوم أنّ المجتمع إذا فُرِّغ من داخله فيسهل سقوطه"، مضافاً إلى أنّ هذا النوع من الحروب يصيب كلّ شرائح المجتمع، يبدأ بالفرد ثمّ يعمد إلى الأسرة فيفكّكها بالكامل وبسقوطها يسقط المجتمع فهو كمثل البنيان الذي يؤتى من قواعده فيخرّ السقف على ساكنيه، ولذا فإنّ الحفاظ على تماسك المجتمع يبدأ بتحصين الأسرة تحصيناً يمتنع على الآخرين خرقه والنفوذ إليه ولا سبيل لتحصينها إلّا من خلال المحافظة على أصالتها وأصالة ثقافتها.


196


الأسرة في القرآن:
للتربية القرآنيّة بُعدان، بُعدٌ يتعلَّق بالفرد، والآخر يتعلَّق بالمجتمع، فالقرآن يستهدف من خلال ذلك تنشئة الأفراد على ثقافة الاهتمام بالمجتمع والمحافظة على مقدّراته، لا ثقافة الإنطواء على الذات لكيلا ينغمس في الأنانيّة ولا يغرق في مصالحه الشخصيّة، ومن جملة اهتمامات القرآن التربية الأسريّة إذ جعل لها حيّزاً كبيراً في آياته الشريفة ممّا يكشف عن ضرورة بناء الأسرة بناءً مستقيماً.

نمـــاذج قرآنيّـــة:1
الأبناء مع الآباء:

لقد ركّز القرآن الكريم على وجوب طاعة الأولاد لآبائهم ومصاحبتهم في الدنيا بالمعروف عند اختلاف العقيدة ووجوب برِّهما وحرمة عقوقهما وضرورة الإحسان إليهما: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا2, ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا3.


197


نمـــاذج قرآنيّـــة: 2
الأباء مع الآبناء:

يعتبر الأبناء مصدراً لسعادة الآباء وإحدى وسائل بقاء ذكرهم في الدنيا وربّما كانوا سبيلاً لنفعهم بعد مماتهم، ولذا فينبغي على الآباء أن يُنشِّئوا أبناءهم نشأة تعينهم على برّهم وعدم عقوقهم، وأن لا يقتلوهم صغاراً ولا كباراً ولأيّ سبب، ولا خشية من إملاق وقد نهى عنه القرآن الكريم صراحة حيث قال:
﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ4،﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا5 وقد جاء في وصيّة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين عليه السلام: "يا عليّ، لعنَ? والديْن حمّلا ولدهما على عقوقهما، يا عليّ، يلزم من عقوق ولدهما ما يلزم الولد لهما من عقوقهما، يا عليّ، رحم? والدين حملا ولدهما على برِّهما"6.

نمـــاذج قرآنيـّــة: 3
الأزواج مع بعضهم:

عمد القرآن الكريم إلى توجيه الراغبين في الزواج توجيهاً سليماً من لحظة انتقاء الذكر للأنثى واختيار الأنثى للذكر، ويجب أن يكون الزوج هو الحضن الذي يترعرع فيه الأولاد، ولهذا كان التركيز على اختيار الزوج للزوجة،


198


وكذلك اختيار الزوجة للزوج، وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ7 وفي الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "تخيّروا لنطفكم فانكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم"8. ولقد تعرّض القرآن الكريم لتنظيم العلاقة والحفاظ على الحدّ الأدنى فيما بين الزوجين ولتقوم على أساس المعاشرة بالمعروف أو التسريح بإحسان حيث قال: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ9.

نمـــاذج قرآنيــّـة:4
الأسرة مع محيطها:

لم يقتصر الإسلام في تعاليمه وإرشاداته للأسرة على تمتين أواصر العلاقة وتقوية وشائج التواصل داخلها فقط، بل ربّى الأسرة على تنظيم علاقتها بمن حولها من النّاس، وكيفيّة تعاملها مع الأحداث والأحوال الطارئة على جميع النّاس.

نمــــــاذج في العلاقـــــة:
إختيار الأصدقاء:

باعتبار أنّ صديق السوء يفسد الأخلاق ويصدّه عن سواء السبيل، وعلى عكس الصديق الحسن فإنّه ينفعه في دينه ويحفظه في غيبته، أكَّد


199


الإسلام على اختيار الثاني وهجران الأوّل، يقول الإمام الصادق عليه السلام: "انظر الى كلّ من لا يفيدك منفعةً في دينك فلا تعتدّن به، ولا ترغبن في صحبته، فإنّ كلّ ما سوى الله تبارك وتعالى مضمحلّ وخيم عاقبته"10.

الإقتداء بالقدوة الصالحة:

أكّد الإسلام على ضرورة اتخاذ القدوة الحسنة واختيار المثل العليا للفرد والجماعة، وقال الله تعالى في محكم آياته:
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ11- وقال أمير المؤمنين عليه السلام: "ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه"12.

نشر الإسلام ومنع الفساد:

منع الفساد ونشر الإسلام بين النّاس من الأهداف الكبرى لجعل الخلافة الإلهيّة في الأرض وقد قال تعالى:
﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ13 وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنّة حتّى تؤمنوا ولا تؤمنون حتّى تحابّوا، أَوَ لا أدلّكم على شيء إن فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم"14.


200


رفض الظلم ومخاصمة الظالم وإعانة المظلوم:
لا يجوز إعانة الظالم، بل نهىَ العباد عن الرضا بعدل الظالم، يقول الله تعالى:
﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ15، وقال الإمام عليّ عليه السلام في وصيّته لولديه الحسنين عليهما السلام: "كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً"16.

نماذج قرآنيّـة: 5
الأسرة الرساليّة بين الوقاية والتوريث:

الأسرة الرساليّة هي التي تحصّن نفسها من الضلالة والضياع في الدنيا، وكذلك الأسرة التي ترِث عن السلف ما فيه صلاحهم وتورث الخلف ما فيه فلاحهم:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ17، وقد سأل أبو بصير الإمام الصادق عليه السلام كيف نقي أهلنا؟ أجاب الإمام عليه السلام قال: "تأمرهم بما أمر الله وتنهاهم عمّا نهاهم الله، فإن أطاعوك كنت قد وقيتهم، وإن عصوك كنت قد قضيت ما عليك"18.

وأمَّا التوريث فقال الإمام الصادق عليه السلام: "لا يزال المؤمن يورث أهل بيته العلم والأدب الصالح حتّى يدخلهم الجنّة حتّى لا يفقد فيها منهم صغيراً ولا كبيراً ولا خادماً ولا جاراً"19.


201


نماذج قرآنيّـة: 6
على أعتاب كربلاء:

عندما نقف على أعتاب كربلاء ندرك أنّ النماذج الفرديّة والجماعيّة، وخاصّة الأسرة، هي نماذج قرآنيّة، وبعبارة أخرى إذا تعلّمنا من القرآن النماذج الأسريّة فإنّما كان بالأسلوب الصامت، وأمّا من كربلاء فإنّنا نتعلّم النماذج الأسريّة الرساليّة بالأسلوب الناطق، إذ نجد في كربلاء الأب مع ابنه والابن مع أبيه والزوج مع زوجته والزوجة مع زوجها، والأخ مع أخيه والأخت مع أخيها والكبير مع الصغير والصغير مع الكبير والعربيّ مع غيره وغيره معه، ومن أهمّ النماذج ما نقرأه في مسيرة السبي حيث إنّ مصيبة كربلاء تنشطر إلى رزيّتين، الأولى تتمثّل بشهادة الحسين عليه السلام وأصحابه والثانية بسبي النساء وعلى رأسهم عقيلة بني هاشم، فإنّها تمثّل في آن واحد الأمّ الصابرة والأخت المحتسبة والابنة الغريبة والمرؤوسة المطيعة لقائدها والقدوة الجهاديّة المحتسبة، فإنّها المدافعة عن حريم الولاية والكافلة للأيتام والقّيّمة على حركة السبي، والمبلِّغة لرسالات الله، تخشاه ولا تخشى غيره، لقد تحوّلت بحقّ إلى المدرسة للعائلة الرساليّة يقتدي بها النّاس فرادى وجماعات، وما نراه اليوم من الإقدام على التضحية والرضا بالقضاء الإلهيّ عند المجاهدين والجرحى وعوائل الشهداء إنّما يعود الفضل لهذه المدرسة القدوة المتمثّلة بشخص مولاتنا السيّدة زينب بنت أمير المؤمنين عليه السلام.


202


هوامش

1- مستدرك الوسائل، ج12، ص 201.
2- سورة الإسراء، الآية: 23.
3- سورة الإسراء، الآية24.
4- سورة الأنعام، الآية:151.
5- سورة الإسراء، الآية31.
6- وسائل الشيعة، ج21، ص289.
7- سورة النور، الآية: 32.
8- كنز العمّال، ح 44556.
9- سورة البقرة، الآية:229.
10- بحار الأنوار،ج 71، ص191.
11- سورة الأحزاب، الآية:21.
12- نهج البلاغة ،رسالة الى عثمان بن حنيف.
13- سورة محمّد، الآية 22.
14- مستدرك الوسائل، ج8، ص362.
15- سورة هود، الآية: 113.
16- نهج البلاغة، الخطبة47.
17- سورة التحريم، الآية:6.
18- وسائل الشيعة، ج16، ص148.
19- مستدرك الوسائل،ج 12، ص201.
     
السابق الصفحة الرئيسة التالي