المحاضرة الثانية: ما يهوّن على الإنسان المصائب

الهدف:
بيان العوامل التي تساعد المبتلى على تحقيق المعاناة عنه وانتقاله إلى مرحلة الرضا.

تصدير الموضوع:

﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ1.


203


مقدّمة:
إنّ المصائب والبلايا التي تصيب العباد منها ما هو نتيجة طبيعيّة لأفعالهم، ومنها ما هو إمتحان وإختبار لرفع درجاتهم، فالأوّل إنّما يكون بسبب ما تقترفه الأيدي وتجترحه الجوارح من سيئات فيصيبهم الله عزَّ وجلّ بألوان المصائب، وقد أشار إليه القرآن:
﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ2، وكذلك أشار أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "إنّ الله يبتلي عباده عند الأعمال السيّئة بنقص الثمرات، وحبس البركات، وإغلاق خزائن الخيرات، ليتوب تائب ويقلع مقلع ويتذكّر متذكّر، ويزدجر مزدجر"3، وهذا القسم سيكون خارج البحث، وسيتمّ التركيز على النحو الثاني وهو أنَّ الله ليتعاهد عبده المؤمن بالبلاء إختباراً من أجل أن يرفع درجته، فعن الإمام الباقر عليه السلام قال: "المؤمن يبتلى بكلّ بليّة ويموت بكلّ ميتة إلّا أنّه لا يقتل نفسه"4.

إذن لا بدَّ من المصائب:

التلازم بين إيمان العبد وبلائه تلازم غير منفك، وعليه فليس بمقدوره أن يردّه، بل عليه التكيّف مع البلاء والمصائب, وبعبارة أخرى عليه


204


أن يربّي نفسه على تحمّلها والفحص عن الأمور التي تهوِّن عليه حينما تُصيبه، وأمّا الدليل على الملازمة فمن الكتاب قوله تعالى: ﴿مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ5 ,﴿ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ6, وقوله تعالى: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ7.

وأمّا من السنّة الشريفة ما عن سدير الصيرفيّ قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام هل يبتلي الله المؤمن فقال عليه السلام: "وهل يُبتلى إلّا المؤمن؟ حتّى إنّ صاحب ياسين قال: يا ليت قومي يعلمون، كان مكنَّعاً"، قلت: وما المكنّع؟ قال: "كان به جُذام"8.

وبمقتضى الملازمة المذكورة فإذا لم يصب الإنسانَ البلاءُ فلينظر في أعماق نفسه وليتطلّع إلى حقيقة علاقته بالله سبحانه وتعالى، إذ لعلّه لا إيمان له ولربّما هو بعيد عن الله مبغوض عنده، يقول الله تعالى:
﴿وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ9 وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا حاجة لله


205


فيمن ليس له في ماله وبدنه نصيب"10. وعن عليّ بن الحسين عليه السلام قال: "إنّي لأكره أن يعافى الرجل في الدنيا ولا يصيبه شيء من المصائب"11، ومن جوامع الكَلِم ما روي عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام قوله: "كفى بالسلامة داءً"12.

ما يُهوِّن عن الإنسان المصائب
1- ما من بليّة إلّا ولله فيها نعمة تحيط بها:

عندما يقف العبد على حقيقة امتحان الله له ويكون على بصيرة من أمره لا يهون عليه تحمل المصائب فحسب بل يصبر وربما يصل الأمر لبعضهم إلى الرضا بما يواجهه من بلاءات ومصائب، يصوَر لنا الشهيد مطهري في كتابه العدل الإلهي بأنَ البلاء الإلهيّ هو لطف الله خفي فهو كحبّة الجوز ظاهره القشور القاسية إلّا أنّه يحتوي على ما فيه فائدة ونفع للإنسان، وقد أشار إلى هذا المعنى الإمام العسكريّ عليه السلام حيث قال: "ما من بليّة إلّا ولله فيها نعمة تحيط بها"13. وبالرجوع إلى الآيات الشريفة في الكتاب الكريم فإنّنا نقف على الكثير من مصاديق اللطف المذكور فعلى سبيل المثال قوله تعالى:
﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ


206


أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا14 ومن السنّة فعن الإمام عليّ عليه السلام: "لتبلبلنّ بلبلة، ولتُغَربلنَّ غربلة، حتّى يعود أسفلكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلكم، وليسبقنّ سبّاقون كانوا قصرّوا وليقصرنّ سبّاقون كانوا سبقوا"15، وعنه أيضاً عليه السلام: "ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد ويتعبّدهم بأنواع المجاهد ويبتليهم بضروب المكاره إخراجاً للتكبّر من قلوبهم وإسكاناً للتذلّل في نفوسهم وليجعل ذلك أبواباً إلى فضله"16.

2- نعمة البلاء ومصيبة الرخاء:

لو آمن العبد بأنّ ما يصيبه من بلاءات وما يحلّ عليه من رزايا ومصائب بأنّها نِعَمٌ إلهيّة وليست نِقماً، وأنّه يستبشر حين يواجه المصيبة ويستوحش عند تأخّرها، لكان ذلك دليلاً على عمق إيمانه بربّه ووفّق للإطلاع على خفايا الأمور، وهنا يقول مولانا الإمام الكاظم عليه السلام: "لن تكونوا مؤمنين حتّى تعدّوا البلاء نعمة والرخاء مصيبة وذلك أنّ الصبر عند البلاء أعظم من الغفلة عند الرخاء"17، ويقول أمير المؤمنين عليه السلام: "إذا رأيت ربّك يوالي عليك البلاء فاشكره، وإذا رأيته يتابع عليك النعم فاحذره"18.


207


3- كرامة الله نهاية بدايتها بلاء:
بلوغ الدرجات العليا لا تحصل سدًى ولا تتحقّق لأحد عبثاً بل لا يبلغها إلّا الصابرون ولا ينال الكرامات الإلهيّة إلّا الفائزون بعد الاختبار والامتحان، فهذا ابراهيم الخليل عليه السلام لم يبلغ درجة الإمامة إلّا بعد إبتلائه بكلمات من ربّه فلمّا أتمهنّ قال له الله تعالى:
﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا19 وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما كرم عبد على الله إلّا ازداد عليه البلاء"20 وعن مولانا الإمام الصادق عليه السلام: "قال ما أثنى الله تعالى عن عبد من عباده من لدن آدم عليه السلام إلى محمّد صلى الله عليه وآله وسلم إلّا بعد ابتلائه ووفاء حقّ العبوديّة فيه، فكرامات الله في الحقيقة نهايات بداياتها البلاء"21.

4- المؤمن مبتلى على قدر حبّه:

تصف الروايات بأنّ مثل المؤمن كمثل كفّة الميزان، فكلّما زيد في إيمانه زيد في بلائه. ومعنى ذلك إذا تباطأت عنه النقم فليعلم أنّه قد نقص في دينه وليكن همّنا ملاقاة الله ولا خطيئة علينا ولا نبالي في الدنيا بما يصيبنا، وهكذا فليثبت الإنسان على طاعة ربّه وطاعة أوليائه وليتزوّد من حبّه لهم حتّى ولو تجلبب بالبلاء؛ لأنّ المؤمن يبتلى على قدر حبّه، وإلى ذلك أشارت الروايات فقال مولانا الباقر عليه السلام: "يبتلى المرء على قدر حبّه"22، وهكذا قال عليه السلام لرجل


208


من أصحابه حين قال له والله إنّي لأحبّكم أهل البيت عليه السلام، قال عليه السلام: "فاتخذ البلاء جلباباً، فوالله إنّه لأسرع إلينا وإلى شيعتنا من السيّل في الوادي، وبنا يبدأ البلاء ثمّ بكم، وبنا يبدأ الرخاء ثمّ بكم"23.

5- البلاء والتكامل:

من يتدبّر بما مرّ من آيات وروايات وفيما لم يتمّ ذكره هنا يجد أنّ العبد له طريق تكامليّ إلى الله سبحانه وتعالى وأن لا يبلغ الدرجة العليا بعد ترك السفلى إلّا فوزه بالامتحان، وبناءً عليه فإنّ طريق الكمال مملوء بالبلاءات والمصائب ولذا فكان أشدّ النّاس بلاءً الأنبياء ثمّ الأمثل فالأمثل، وقد أشار الإمام الصادق عليه السلام إلى ذلك بقوله عليه السلام: "إنّ أشدّ النّاس بلاءً الأنبياء ثمّ الذين يلونهم ثمّ الأمثل فالأمثل"24، وكذلك يدلّ عليه ما جاء في مطلع دعاء الندبة حيث قال: "اللهمّ لك الحمد على ما جرى به قضاؤك في أوليائك الذين أستخلصتهم لنفسك ودينك إذ اخترت لهم جزيل ما عندك من النعيم المقيم الذي لا زوال له ولا اضمحلال".

وأمّا بالنسبة للمؤمن فكذلك يجري عليه نفس القانون المذكور وهو أنّه لا يتكامل إلّا بعد ابتلائه وقد أشار إليه الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "إنّ العبد لتكون له المنزلة من الجنّة فلا يبلغها بشيء من البلاء حتّى يدركه الموت ولم يبلغ تلك الدرجة فيشدّد عليه عند الموت فيبلغها"25.


209


6- التأسّي بما جرى في كربلاء:
من العوامل الأساسيّة التي تساعد المبتلى على تخفيف ما أصابه أن يعيش ما جرى في كربلاء وليتخذ من أسمائها وشخصيّاتها قدوة له وأسوة يقتدي بها، فإنّها تخفّف عن مصائبه وربّما لم يعد يشعر بها لعظمة ما حصل في كربلاء من رزيّة عظمت على أهل السماء قبل أن تتعاظم على أهل الأرض ومن تلك المواطن التي يقف عليها ما جرى على مولانا الإمام زين العابدين عليه السلام لا سيّما صبره على شماتة الأعداء وهو مكبّل ومقُيّد بسلاسل الحقد والبغض إلّا أنّهم لم يتمكنّوا من إسكاته عن جرائمهم وفضحهم أمام البعيد والقريب من جملة ذلك ما جاء في بعض الأخبار أنّه لما حُمل عليّ بن الحسين عليه السلام إلى يزيد بن معاوية فأوقف بين يديه، قال له يزيد لعنه الله:
﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ فقال مولانا عليّ بن الحسين عليه السلام ليست هذه فينا إنّ فينا قول الله عزَّ وجلّ: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ26 وعن الإمام الصادق عليه السلام عن قول الله تعالى وما أصابكم من مصيبة قال عليه السلام: "أرأيت ما أصاب عليّاً وأهل بيته هو بما كسبت أيديهم؟ وهم أهل طهارة معصومون؟! قال .... إنّ الله يخصّ أولياءه بالمصائب ليأجرهم عليها من غير ذنب"27.


210


هوامش

1- سورة الحديد، الآية: 22.
2- سورة الروم، الآية: 41.
3- بحار الأنوار، ج9. ص76, نوادر الراوندي، ج1، ص 143.
4- بحار الأنوار، ج 8، ص196.
5- سورة آل عمران، الآية: 179.
6- سورة آل عمران، الآية: 141-142.
7- سورة آل عمران، الآية: 154.
8- بحار الأنوار، ج 67، ص 241 .
9- سورة الزخرف، الآية: 33.
10- بحار الأنوار، ج67، ص 174.
11- بحار الأنوار، ج 82، ص 176.
12- بحار الأنوار، ج 81، ص174.
13- بحار الأنوار، ج 78، ص 260.
14- سورة الكهف، الآية: 7.
15- بحار الأنوار، ج 5، ص 218 .
16- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج13، ص 156.
17- بحار الأنوار، ج 67، ص237.
18- غرر الحكم
19- سورة البقرة، الآية: 124.
20- بحار الأنوار، ج 96، ص 28.
21- بحار الأنوار، ج 67، ص231.
22- بحار الأنوار، ج 67، ص 236.
23- بحار الأنوار، ج 67، ص 238.
24- الكافي، ج 2،ص 252.
25- بحار الأنوار، ج 82، ص 167.
26- نوادر الراوندي، ج 5، ص247.
27- بحار الأنوار، ج81، ص 180.
     
السابق الصفحة الرئيسة التالي