المحاضرة الثالثة: خطورة الغزو الثقافيّ

الهدف:
بيان أنّ التبعيّة الثقافيّة للآخرين أخطر سلاح لتدمير هويّة أي مجتمع من المجتمعات.

تصدير الموضوع:

﴿صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ1.


229


مقدّمة:
إنّ الله سبحانه وتعالى، فطر الإنسان على توحيده:
﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ومن ثمَّ صبغه بصبغته التي هي أفضل الصبغ وهو دين الله تعالى، كما جاء في قوله تعالى: ﴿صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ2 هذه الآية جاءت في سياق الردّ على الديانات التي تعدّدت وتفرّقت وتمزّقت باتباعها أهواءها ومشتهياتها ممّا أدّى إلى جوهر دينها فتبدّل وأصبح دينهم خاضعًا للهوى، ولم يكتفوا بذلك بل أرادوا أن يقدّموه للبشريّة على أنّه هو دين الله تعالى، فجاء الإسلام ووقف في وجوههم وردعهم عن فعلهم، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ3 ويريد القرآن أن يصوِّب التفكير أوّلًا ثمّ يبيّن المخاطر على مسار الحنيفيّة، ويؤكّد للمسلمين بأنّ دينهم هو الدّين الذي يرتضيه الله سبحانه وتعالى وبأنّ الالتزام بالحنيفيّة هو عين التسليم لربّ العالمين؛ ولذا جاء الردّ على أتباع الديانتين بقوله: ﴿فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ4 وبعدها حسم القرآن مادّة النزاع معهم بقوله: ﴿صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً.


230


محاور الموضوع
عوامل بناء شخصيّة الإنسان:
إنّ عمليّة التأثّر بالمحيط والتأثير فيه من الأمور الطبيعيّة، وبحسب العادة فإنّه كلّما كان الشيء أكثر فاعليّة كلّما كان أكثر تأثيراً في الأشياء الأخرى، والإنسان خاضع لهذا القانون وليس بمعزل عنه، ومن هنا كان الإرشاد ثمّ كان التأكيد الدائم والمستمر على إختيار العوامل المستقيمة التي تدخل في صياغة شخصيّة الإنسان وبناء معتقداته وثقافته، وعندما يتحدّثون عن تلك العوامل يتمّ التركيز على عوامل ثلاثة:
الأوّل: الوراثة وهو عامل تكوينيّ، هذا وبإمكان الأبوين التحكّم فيه إلى الحدّ الذي يترك بعض البصمات في شخصيّة المولود، وذلك يؤثّر تأثيراً إيجابيّاً في مستوى العقل والقلب والبدن، مثلًا، فإنّ المحافظة على الهدوء النفسيّ والمواظبة على بعض الأعمال العباديّة، وحتّى أنّ تناول بعض الأطعمة والأشربة له أثره على مسار الجنين.

الثاني: البيئة وهي من العوامل الرئيسيّة في صياغة شخصيّة الولد وثقافته، ولذا أكّدت الشريعة على توفير البيئة المناسبة من الفحص عن الرفقة الذين يصاحبهم، إلى المواطن التي يختلف إليها وغيرها ممّا يُعَدُّ من مصاديق البيئة.

الثالث: التربية، وهذا من أكثر العوامل دقّة وحساسيّة في بناء شخصيّة


231


الفرد لأنّ الإنسان كثيراً ما يتأثّر بالمعلّم والمدرسة وفي أغلب الأحيان ينظر المتعلّم إلى معلّمه نظرة الاحترام ويشكّل له في مسيرته الحياتيّة القدوة، بغضّ النظر عن صلاحه أو فساده، ومن هنا كان التأكيد في الروايات على تحصين الأولاد حتّى لا تسبق إليهم المرجئة وبالتالي تمنعهم من السيطرة على عقولهم وقلوبهم وهذا بعينه لون من ألوان الغزو الثقافيّ.

أسباب التأثّر بثقافة الآخرين:

هناك أسباب تولِّد في نفس الإنسان قبول ثقافة الآخرين، وربّما تؤدّي أحياناً بالبعض إلى الخضوع التامّ لها.

الأوّل: عدم الثقة بالنّفس

عندما يفقد الإنسان الثقة بنفسه ولم يكن صاحب بصيرة ودراية، فيعيش حالة من الشكّ والريب، وربّما بلغت درجة من القلق وعدم الاستقرار، ممّا يدفعه إلى قبول ما عند الآخرين للتخلّص ممّا هو فيه، وهذا يحتاج إلى معالجة نفسانيّة.

الثاني: الجهل بقدرات الإسلام القيميّة والقانونيّة

إنّ جهل الإنسان بقوانين الإسلام الشامخة لا سيّما إذا كان جهله مركّباً أي غير ملتفت إلى جهله، فهذا يدفعه إلى توجيه النقد إلى الإسلام وإلى قوانينه ويدّعي بأنّها أصبحت من الماضي وليس بإمكانه مواكبة العصرنة ممّا يدفعه إلى الاعتقاد بحقّانيّة ثقافة الآخرين تحت ذريعة تأمين الحاجات للفرد


232


وللمجتمع، وهذا في الحقيقة يحتاج إلى التعلّم لإزاحة الجهل عنه.

الثالث
: يجد البعض أنّ الذي يصون مصالحه ويشبع شهواته هو تبعيّته للآخرين وقناعته بما لديهم وعندهم، فهؤلاء أشبه شيء بالهمج الرعاع الذين لم يستضيئوا بنور العلم ولم يركنوا إلى كهف حريز، فهم أتباع كلّ راعٍ وينعقون مع كلّ ناعق.

الرابع: الإنبهار بثقافة الآخرين

عدم الوقوف على حقيقة ما عليه الآخرون يؤدّي إلى عدم القدرة على التمييز بين الجيّد والأجود، أو بين القبيح والحسن، فهو كأعشى البصر لا يرى إلّا أشباحاً تتمايل أمام عينيه فيخيّل له اللاواقع واقعاً، ويترتّب على ذلك الاختيار السيِّء.

نهى القرآن عن التقليد ولو بالكلمة

نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين عن استخدام لفظة كان يستعملها اليهود كثيراً وأمرهم باستبدال لفظةٍ مرادفة بها. ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ5 والسبب في ذلك أنّ اليهود كانوا يستخدمونها عند حديثهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبهذا الاستخدام كانوا يظهرون الأدب في حديثهم إلّا أنّهم يقصدون السبَّ والشتم كما هو ظاهر قوله تعالى: ﴿مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا


233


بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً6 فإذا أراد المسلمون مخاطبة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فكانوا يخاطبونه بنفس العبارة تقليداً لليهود فنزل قوله تعالى ناهياً إيّاهم عن ذلك وأرشدهم إلى كلمة تحمل نفس المعنى وهي انظرنا. وهنا نقول ما بالكم إذا نهى الله سبحانه وتعالى المسلمين عن استخدامهم لفظة كانت شائعة على ألسنة اليهود؟ فهل يرضى لهذا المجتمع الجديد أن يكون تابعاً ومقلّداً في ثقافته وفكره وغير ذلك؟

مع الأخذ بعين الإعتبار أنّ القرآن هو في مقام بناءً هذا المجتمع بناءاً له استقلاليّته التامّة في جميع أبعاده.

الاخضاع الثقافيّ أخطر سلاح

بالمقارنة بين الحرب العسكريّة (الصلبة) والحرب الثقافيّة (الناعمة) فإنّ الحرب الثانية أخطر على كيان المسلمين من الحرب الأولى، والسبب في ذلك هو أنّ الحرب العسكريّة تشنّ لاخضاع مجتمع ما لصالح القوّة المهاجمة للسيطرة على ممتلكاتها وثروتها ومقدّراتها. وقد تتمكّن من السيطرة والاستيلاء على ذلك، إلّا أنّها لن تستطيع إخضاع هذا المجتمع داخليًّا وعلى المستوى النفسيّ لإرادتها. ولطالما هناك رفض نفسيّ للقوّة


234


الغازية فهذا يعني أنّ جذوة المقاومة متّقدة وهي قابلة للاشتعال في أيّ لحظة من اللحظات لتتحوّل إلى قوّة تتمكّن من تحرير ذاتها ومن إعادة السيطرة لنفسها على مقدّراتها.

بخلاف الحرب الثقافيّة والغزو الثقافيّ فإنّها تبدأ بعمليّة السيطرة ويتمّ الوصول إلى أهدافها من خلال الاخضاع النفسيّ والداخليّ للغازي، وبذلك يسيطر على الإرادة ومن ثَمَّ يتمكّن من السيطرة على المقدّرات مع كامل التسليم والرضا القلبي والباطني للمستعمر وهذا لا يسهّل له الاستئثار بالأمور الماديّة فحسب بل يفتح له الطريق لتغيير هويّة وتاريخ الفئة المستهدفة ويجعلها تابعة لإرادته طوعاً، وهنا تكمن الخطورة في الغزو الثقافيّ، يقول الإمام الخمينيّ قدس سره في بداية انتصار الثورة المباركة في إيران: إنّ الثقافة التي رسم خطوطها الأجانب وأملوها على شعبنا لهي أخطر من سلاح الجبابرة؛ لأنّها تقدّم إلى الأمّة شباباً يملكون قابليّة الاستعمار.

ما هي القيمة الثقافيّة للمجتمع؟

إنّ الحديث عن ثقافة أي مجتمع هو الحديث عن هويّته بمعناها العامّ الشامل لمعتقداته وفكره وسلوكه، يقول الإمام المقدّس: إنّ ثقافة أي مجتمع إنّما تشكّل هويّة ووجود المجتمع وإنّ الإنحراف الثقافيّ يؤدّي إلى خواء ذلك المجتمع وشعوره بالفراغ، رغم أنّه قد يكون قويّاً ومقتدراً في


235


المجال الإقتصاديّ والسياسيّ والصناعيّ والعسكريّ7.

وأمّا العامل الذي يشكّل الضمانة المطلقة لثقافة المجتمع من التزوير أو التحريف فهو العلماء الربانيّون الذين تعمّقوا في فهم الإسلام الحنيف، والذين يملكون قوّة التأثير في المسلمين، وهذان رصيدان يصنعان من العلماء قوّة ناعمة وبأيديهم أقوى سلاح لتحصين المجتمع من أن يُخرق من قبل الغزاة والمستعمرين الثقافيّين. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: كان هدفهم هو القضاء على الإسلام، وكان الطريق للقضاء على الإسلام هو القضاء على العلماء، فهم كانوا يعلمون أنّه ما دام العلماء موجودين فإنّهم يحفظون الإسلام8.


236


هوامش

1- سورة البقرة، الآية 138.
2- سورة البقرة، الآية 138.
3- سورة البقرة، الآية 135.
4- سورة البقرة، الآية 137.
5- سورة البقرة، الآية 104.
6- سورة النساء، الآية 46.
7- الكلمات القصار، ص 233.
8- الكلمات القصار، ص 233.
     
السابق الصفحة الرئيسة التالي