المحاضرة الأولى: كيف تحقّقت أسمى معاني العبوديّة للإمام الحسين في الشهادة؟

الهدف:
بيان أنّ أشرف مراتب العبودية التي بلغها الامام الحسين عليه السلام حين شهادته المباركة.

تصدير الموضوع:

"إلهي ...منك أطلب الوصول إليك"، "إلهي تقدّس رضاك".


239


مقدّمة:
إنّ العبادة ملازمة للمعرفة فكلّما ازداد العبد معرفة بمعبوده كلّما زاد في عبادته حتّى يقترب من حقيقة العبوديّة، وهكذا فكلّما ضعفت معرفته به كلّما فقدت العبادة جوهرها، وقد أشار إلى هذه الحقيقة الإمام المقدّس روح الله الموسويّ الخمينيّ قدس سره فقال "إنّ من أعلى مراتب الخسران والضرر الاقتناع بصورة الصلاة وقشورها والحرمان من بركاتها وكمالاتها الباطنيّة التي توجب السعادات الأبديّة، بل إنّها توجب جوار ربِّ العزّة، ومرقاة العروج إلى مقام الوصول، يوصل إلى المحبوب المطلق الذي هو غاية آمال الأولياء ومنتهى أمنية أصحاب المعرفة وأرباب القلوب، بل قرّة عين سيّد الرسل صلى الله عليه وآله وسلم، فكلّ من تجلَّى التوحيد في نفسه وأزال عنها الأغيار بكلّ المراتب وأقام في العبوديّة تولّى? شؤونه، وقد دلّ على هذه الحقيقة قوله تعالى حيث يقول: ﴿ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ1.

العبادة بين معرفتين:
تبيّن آنفاً أنّ جوهر العبادة وحقيقة العبوديّة يفتقران إلى المعرفة، وحينما يقوم في فعليّة التزوّد منها لتمنحه العروج في درجات الكمال ليصل إلى مقام اليقين. وببلوغ تلك المرحلة فقد بلغ درجات الكمال. يقول الله سبحانه


240


وتعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ2 وحينها يصل إلى ما وصل إليه أمير المؤمنين وإمام المتّقين "لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً"3.

المعرفة الأولى التي تتوقّف عليها العبادة هي المفهوم الذي يدركه عامّة النّاس من الله تعالى، والمعنى الذي يفهمونه عند سماعهم لكلمة الله. ذلك الوجود الخالق للعالم، وبعبارة أخرى فإنّهم يعرفون الله بعنوان كونه خالقاً، وأحياناً يلتفتون إلى معانٍ أخرى من قبيل الربّ والمعبود أي اللائق للعبادة، وبالنظر إلى أنّ أمثال هذه المفاهيم منتزعة من مقام الفعل الإلهيّ، والبعض الآخر منتزع من أفعال المخلوقين كالعبادة، وأمّا المعرفة التي هي ثمرة العبادة فهي المعرفة التي تحكي لنا الذات المقدّسة، وقد استعمل الفلاسفة مصطلح واجب الوجود بمعنى أن يكون وجوده ضروريّاً ويمتنع عليه الزوال مطلقاً.

ومعرفة الله لا تتحقّق إلّا بالتكامل الحقيقيّ للإنسان، وهذا التكامل لا يحصل إلّا في ظلّ القرب الإلهيّ، وببلوغ هذا المقام تبوَّأ مقام اليقين والكشف الذي تحدّث عنه أمير المؤمنين.

وكذلك أشار إلى هذا المقام سيّد الشهداء أبو عبد الله الحسين عليه السلام فعن مولانا الصادق عليه السلام قال "خرج الإمام الحسين على أصحابه وقال: أيّها الناس، إنّ الله جلَّ ذكره ما خلق العباد إلّا ليعرفوه فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة ما سواه"4.


241


المعرفة الفطريّة بالله تعالى:
إنّ معرفة الله فطريّة من طريق العلم الصوريّ، وقد ينال كلّ فرد نصيباً من هذه المعرفة، وبما أنّها قابلة للتقوية بتكامل النفس وتركيز التفات القلب إلى الساحة المقدّسة بوساطة العبادات والأعمال الصالحة، تصل هذه المعرفة عند أولياء إلى درجة من الوضوح بحيث يرون الله أظهر من كلّ شيء، وهو المظهر لكلّ شيء، كما جاء في دعاء مولانا أبي عبد الله الحسين عليه السلام، في يوم عرفة، حيث قال "أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتّى يكون هو المظهر لك"5 فمعرفة الإمام الحسين بالله تعالى هي معرفته الفطريّة اليقينيّة بأنّ كلّ شيء في هذا الوجود مفتقر في أصل وجوده إلى الله، وأنّ ديمومته محتاجة إلى استمرار الفيض الإلهيّ عليه ولولا وجود الله لما وجد شيء، وكلّ شيء في هذا الوجود هو عين الفقر والحاجة وعين الربط والتعلّق بالله سبحانه وتعالى، وقد أشار إلى ذلك بقوله "الهي تردّدي في الآثار يوجب بعد المزار فاجمعني عليك بخدمة توصلني إليك كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك"6.

الإمام الحسين بين أنت وأنا:

لا يرى الإمام الحسين عليه السلام في هذا الوجود إلّا الله سبحانه وتعالى، وقد أدرك كنه الربوبيّة في حقيقة العبوديّة، وحينما يقف مناجياً وداعياً فإنّما يناجي من يراه، وطالما أزال من قلبه كلّ شيء إلّا الله، فحينما يتوجّه إليه بقلبه فلا يخاطب سواه، ويظهر على لسانه مردّداً: أنت الذي مننت، أنت


242


الذي أنعمت، مكرّراً إيّاها سبعة وعشرين مرّة، وفي كلّ مرّة يعتمد على واحدة من صفاته الحسنى، ثمّ ينتقل إلى فقر ذاته المتقوّمة بغيرها مخاطباً إيّاها بقوله: "أنا يا إلهي المعترف بذنوبي، أنا الذي أخطأت"، وقد كرّرها على مسامعهم وهو يخاطب الله بأسمائه.

الإمام الحسين بين عرفة وكربلاء:

ومن جملة ما عبّر عن حقيقة ما هو عليه في عرفة وكربلاء ما جاء على لسانه الشريف وهو يقول في عرفة حيث إدراك العبد لحقيقة ذلّ عبوديّته فيقول "إلهي ذلّي ظاهر بين يديك، وهذا حالي لا يخفى عليك، منك أطلب الوصول إليك، وبك استدلّ عليك، فاهدني بنورك إليك، وأقمني بصدق العبوديّة بين يديك"7.

وأمّا في كربلاء حيث يحتاج إلى التوكّل على الله والثقة به والاعتماد عليه فقال: "اللهمّ أنت ثقتي في كلّ كرب، وأنت رجائي في كلّ شدّة، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدّة، كم من كرب يضعف فيه الفؤاد، وتقلّ فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدوّ، أنزلته بك وشكوته إليك، رغبة منّي إليك عمَّن سواك، ففرّجته وكشفته، فأنت وليُّ كلِّ نعمة، وصاحب كلِّ حسنة، ومنتهى كلِّ رغبة"8.


243


خذ حتّى ترضى:
من يتأمّل في مناجاته يجد أنّ رغبة المؤمن وعشقه يكمن في الوصول إلى رضا الله والتنعّم بشرف النظر إلى نور جلاله وهذا ما نقرأه في حياته العمليّة حيث يقول عليه السلام: "الهي ... منك أطلب الوصول إليك" ويقول: "إلهي تقدّس رضاك"، ولا يصل إلى هذه المقامات إلّا من أشرقت الأنوار في قلبه حتّى عرف الله وحده وبه يزول الأغيار عنه حتّى لا يحبّ سواه، ولا يلجأ إلى غيره، فيقوم في ظلّه مستأنساً وقد فرّ من عالم الوحشة، هكذا وجد الإمام الحسين عليه السلام أنّ ذروة السعادة حال الانقطاع التامّ الكامل إلى الله وهو ممّا لم يتحقّق إلّا في كربلاء، فلذلك رغب في المزيد من الوقت للصلاة والمناجاة وقراءة القرآن، كما حصل عصر تاسوعاء وليلة ويوم عاشوراء، ولكن ذروة الذروة ممّا كان يطلبه من الله في عرفة هو الوصول إلى رضا الله المقدّس وجده يوم العاشر من محرّم حينما حمل الطفل الرضيع مذبوحاً وهو يقول: "أرضيت يا ربّ خذ حتّى ترضى" هذه اللحظات هي غاية المرام ونهاية المقام وهي لحظة إدراك حقيقة العبوديّة والوصول إلى الربوبيّة، لحظة احتراق جناحي العبد بتوهّج نور المعبود، ولحظة فناء العاشق بحلولها في فناء معشوقها، وهو نتيجة الطاعة والتسليم.


244


هوامش

1- سورة الأنعام، الآية:102.
2- سورة الحجر، الآية:99.
3- بحار الأنوار، ج 46،ص 135.
4- بحار الأنوار، ج 23، ص 83.
5- من دعاء الإمام الحسين عليه السلام في عرفة.
6- من دعاء الإمام الحسين عليه السلام في عرفة.
7- من دعاء الإمام الحسين عليه السلام في عرفة.
8- بحار الأنوار، ج 45، ص 5.
     
السابق الصفحة الرئيسة التالي