المحاضرة الثانية: حدود العلاقات الإجتماعية

الهدف:
بيان ضرورة توثيق وشائج العلاقات الاجتماعيّة ولكن ضمن حدودها الشرعيّة والعرفيّة.

تصدير الموضوع:

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أنسك النّاس نسكاً أنصحهم جيباً وأسلمهم قلباً لجميع المسلمين"1.


49


مقدّمة:
قد أشار القرآن الكريم في الآية الواحدة والسبعين من سورة التوبة إلى أجمل صورة لطبيعة العلاقات الاجتماعيّة لا سيّما بين المؤمنين حيث قال سبحانه: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ2 حيث إنّها تضمّنت مجموعة من آداب العلاقات الاجتماعيّة وغيرها كالحفاظ على فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الحفاظ على الأمور العباديّة، كعلاقة الفرد بربّه، ومن جملة العلاقات الاجتماعيّة ما له بُعد اقتصادي قوامهُ الزكاة مضافاً إلى سنخ علاقة تقتضي قوّة المجتمع وتماسكه من خلال الطاعة لله وللقائد الشرعيّ المتمثّل بخاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم وبالتالي فإنّ الحفاظ على هذه العلاقات المتنوّعة يستدعي استمطار الرحمة الإلهيّة.

ولم يكتف الإسلام ببيان الخطوط العريضة لمبادئ العلاقات الاجتماعيّة، بل تعدّاها إلى الحديث عن تفاصيل وجزيئات الأجزاء ومن جهة أخرى فإنّ الأحكام ذات الطابع العباديّ لها بُعد إجتماعيّ، فمثلًا هناك فرق بين الحضور في صلاة الجماعة والإتيان بها فرادى، والحجّ - كما نرى - تُقضى مناسكه مع المسلمين، وبعض مناسكه لوحظ فيها


50


الأغيار كالأصناف التي تُستفاد من الأضحية، وهكذا الجهاد وبقيّة الأمور العباديّة.

ومن جهة ثالثة لقد أهتمّ الإسلام بتوطيد العلاقات الاجتماعيّة بالقول والفعل حتّى على مستوى لحظ العين وقسمات الوجه وبالبسمة؛ عن الإمام عليّ عليه السلام: "قولوا للنّاس أحسن ما تحبّون أن يقال لكم"3.

تنفيس الكربات وادخال السرور:

إنّ العلاقات الاجتماعيّة إذا كانت تقوم على المظاهر الخارجيّة وتكتفي بالأمور الشكليّة من دون النفوذ إلى الداخل والتأثير الإيجابيّ في الباطن، فإنّها لا تحظى بدخولها إلى ساحة المفاهيم القيميّة فضلًا عمَّا إذا اختلفت حالتا العلاقات بين الظاهر والباطن، بمعنى أنّ تقديم يد المساعدة إلى الفقراء هو حسن، بحسب الظاهر، إلّا أنّه لو تبعتها المنّة فتدخل الأذيّة إلى الباطن، وقد نهى القرآن عن إبطال الصدقات بالمنِّ والأذى، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى


51


شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ4.

فأيّة قيمة أخلاقيّة تمثّل هذه المساعدة؟ وبالمقابل قد لا يتمكّن الإنسان من مساعدة الآخرين ماديًّا إلّا أنّه تمكّن من التخفيف عنهم بالكلمة الطيّبة فأزال من نفوسهم ألم الحاجة، فإنّ هذا لم يسعهم بأمواله، إلّا أنّه قد وسعهم بأخلاقه وهذا له من القيم الأخلاقيّة ربّما يفوق ما يقدّمه من مساعدات ماليّة، يقول الله تعالى: ﴿قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ5 ومن هنا ندرك أنّ الثواب الجزيل لأولئك الذين تمكّنوا من النفوذ إلى داخل القلوب المكروبة فنفّسوا كربتهم وأحلّوا مكانها الفرح والسرور وهاك بعضاً منها:
الأولى: ما رواه الشيخ الصدوق في المقنع عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "من أدخل على مؤمن سروراً فقد أدخله على الله"6.

وكذلك روى الشيخ الكليني باسناده عن مسمع أبي سيّار قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "من نفَّس عن مؤمن كربة نفَّس? عنه كرب الآخرة وخرج من قبره وهو ثلج الفؤاد"7.

وروى الصدوق في العيون والمعاني عن الإمام الرضا عليه السلام، عن أبيه عن الصادق عليه السلام: "أنّ الله تعالى أوحى إلى داوود عليه السلام أنّ العبد من


52


عبادي ليأتيني بالحسنة فأدخله الجنّة. قال: يا ربّ، وما تلك الحسنة؟ قال: يفِّرج عن المؤمن كربه ولو بتمرة"8.

أذيّة الآخرين:

ممّا لا شكّ فيه أنّ أذيّة الآخرين فعل محرّم ويعدّ مرتكبها من مرتكبي الكبائر، ويدلّ عليه قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا.

وجاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "... و من آذى مؤمناً فقد آذى الله عزَّ وجلّ في عرشه والله ينتقم ممّن ظلمه"9.

درجات الأذيّة:

إنّ الأذيّة هي حركة انفعاليّة في نفس الذي لحقت به الأذيّة، وهي تختلف شدّة وضعفاً بحسبها، علماً أنّها كلّها تدخل تحت عنوان الإثم المبين ولكن لا بأس ببيان درجاتها:
الأولى: النظر إلى المؤمن لإخافته وهي أضعف الشرور. عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من نظر إلى مؤمن نظرةً يخيفه بها أخافه الله تعالى يوم لا ظلّ إلّا ظلّه"10.

الثانية: إدخال الحزن إلى قلبه.


53


وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من أحزن مؤمناً ثمّ أعطاه الدنيا لم يكن ذلك كفّارته ولم يؤجر عليه"11.

الثالثة: إهانة المؤمن

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم في حديث قدسيّ: "من أهان لي وليّاً فقد أرصد لمحاربتي"12.

والجدير ذكره أنّ إهانة الآخرين تكشف عن مذلّة المهين، فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "أذلّ النّاس من أهان النّاس"13.

ترويع الآخرين:

إنّ أيّ عمل يقوم به المرء يثير الرعب في قلوب الآخرين فهو لا يقلّ خطورة وآثاراً عن الأذيّة، بل هو من أبرز مصاديق الأذيّة، فعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "لا يحلُّ لمسلم أن يروِّع مؤمناً"14.

أمير المؤمنين مدرسة في الأمن الاجتماعيّ:

جاء في الكتاب تحت رقم 25 من نهج البلاغة إلى عمّاله الذين يعملون على جباية الضرائب ويجمعون الزكوات: "انطلق على تقوى الله وحده لا شريك له، ولا تُرَوِّعنَّ مسلماً ولا تجتازنَّ عليه كارهاً، ولا تأخذنَّ منه أكثر من حقّ الله في ماله، فإذا قدمت على الحيّ فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم ثمّ امض إليهم بالسكينة والوقار


54


حتّى تقوم بينهم فتسلِّم عليهم، ولا تُخْرِجْ بالتحيّة لهم ثمّ تقول: عباد الله أرسلني إليكم وليّ الله وخليفته لآخذ منكم حقّ الله في أموالكم، فهل لله في أموالكم من حقّ فتؤدُّوه إلى وليّه، فإن قال قائل: لا. فلا تراجعه"15.

أمام هذا كلّه هل يبقى أي مسوغ لكلّ الأعمال التي يقوم بها بعض الأفراد ممّا يكون سبباً إمّا للترويع أو الأذيّة أو الإزعاج من قبيل إطلاق الرصاص بمناسبة أو بغير مناسبة، وهذا بغضّ النظر عن الإسراف والتبذير فإنّه في المرحلة الأولى يثير الخوف ويدخل الروع إلى قلوب الآخرين، لأنّ مطلق النّار لا يراعي المكان والزمان وحالات النّاس لعلَّ بعضهم مريض أو نائم أو أنّه يثير الذعر في قلوب الأطفال والنساء، وتشتدّ فيما لو حصل ذلك ليلاً وأمّا في المرحلة الأخيرة فلعلّها أصابت أحداً فأدّت إلى إعاقته أو قتله فما هو جوابه يوم القيامة؟ علماً أنّه يتوجّب عليه رعايته الإستشفائيّة أو يسلّم الدية لورثته، ولعلّه يقتصّ منه في بعض الصور.

من صور الإزعاج:

ومن جملة الأمور المؤذية أو المزعجة للآخرين إطلاق العنان للسيّارات في الطرقات والأزقّة المزدحمة من دون مراعاة السرعة، أو إطلاق أبواقها ليلاً أو نهاراً أو رفع صوت مسجِّلها بحيث يزعج المارّة وغيرهم. ومنها أيضاً التجمّع في الساحات والمقاهي ليلاً حتّى ساعات


55


متأخّرة من الليل من دون مراعاة القاطنين بالقرب منها، فلعلّ منهم من خلد إلى النوم، ومنهم أراد الإستراحة من عناء التعب الماضي، وكذلك إقامة الموالد والحفلات الليليّة الصاخبة.

ومنها: إقامة الحفلات في وسط الطرقات العامّة أو على قارعتها بحيث تعيق حركة النّاس وتسبّب في الإزدحام الخانق أو كما يعمد البعض إلى حفر الطرقات العامّة دون وضع علامات ترشد المارّة والسائقين، إلى غير ذلك من الأعمال التي يأتي بها البعض من دون مراعاة لمشاعر الآخرين واحترام حرّيّتهم.

نموذج من كربلاء:

ما بين شراف وذي حسم - وهما منزلتان تقعان في طريق الإمام الحسين عليه السلام، من مكّة إلى كربلاء - قد التقى بالحرّ بن يزيد الرياحيّ ومعه ألف فارس من جيش عبيد الله بن زياد، وقد صرّح للإمام في بعض المواطن أنّه إذا لقيناك لا نفارقك حتّى نقدّمك على عبيد الله بن زياد، وبعد رفض الإمام بقوله: "الموت أدنى إليك من ذلك"، وهكذا مضت عدّة أيّام على الفريقين وهما يقطعان الطريق إلى أن نزل الإمام الحسين كربلاء ولمّا اتّخذ الحُرُّ القرارَ بالإلتحاق بجيش الإمام عليه السلام وبعد أن ضرب فرسه ردَّد هذه الكلمات: اللهمّ إليك أنيب فتب عليَّ فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيّك16.


56


هوامش

1- وسائل الشيعة، ج16، باب 21، ح1.
2- التوبة: 71
3- الكافي، ج2، ص 132،ح10.
4- البقرة: 264
5- البقرة: 263
6- وسائل الشيعة، ج16، ص 356، باب 24، ح 19.
7- الكافي، ج2 ، ص 159.ح3.
8- عيون أخبار الرضا، ج1، ص 313؛ معاني الأخبار، ج1، ص 374.
9- المقنع، ص 7.
10- بحار الأنوار، ج75، ص 150.
11- بحار الأنوار، ج75، ص 150.
12- بحار الأنوار، ج77، ص 193.
13- بحار الأنوار، ج78، ص 192.
14- بحار الأنوار، ج 75، ص 148.
15- نهج البلاغة، كتاب 25.
16- أمالي الصدوق، ص 223.
     
السابق الصفحة الرئيسة التالي