الصفحة الرئيسية
بحـث
تواصل معنا
Rss خدمة
 
  تحريك لليسار إيقاف تحريك لليمين
كلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في لقاء مسؤولي البلاد وسفراء الدول الإسلاميّةكلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في خطبتَي صلاة عيد الفطركلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في لقاء جمع من الطلّاب الجامعيّينكلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في اللقاء الرمضانيّ مع مسؤولي البلادبِهذا جُمِعَ الخَيرُ

العدد 1612 07 شوال 1445 هـ - الموافق 16 نيسان 2024 م

لَا تُطَوِّلْ فِي الدُّنْيَا أَمَلَكَ

العامل الأساس للنصر مراقباتالأيّامُ كلُّها للقدسِسُلوك المؤمِن
من نحن

 
 

 

التصنيفات
الإسلام والبيئة – 1
تصغير الخط تكبير الخط أرسل لصديق

الطبيعة أمُّ الإنسان. والإنسان لا يجد طمأنينته إلا في أحضان الطبيعة، ففيها ينمو ويصل إلى كماله.والعالم من دون الطبيعة، كالطبيعة الغارقة دائماً في فصل الخريف الذابل والمكتئب، بوجهه المُحْنَقِ والعاري.
 
ولا تستقيم ولا ترتقي أيّ حضارة من دون الطبيعة، إذا ظهرت الحضارة في ظلّ الطبيعة إلا أنّها ابتعدت عنها في استمرار حياتها فسيكون مصدرها سيئاً. ولقد تفتّحت وازدهرت الحضارة الغربية ووصلت إلى ما وصلت إليه من التكنولوجيا في أحضان الطبيعة، ولكن للأسف بدلاً من أن تستخدم ما أخذته من الطبيعة وتقنياتها الحديثة ليكونا في خدمة الطبيعة والسعي في المحافظة عليها بشكلٍ دقيق وعلمي، توجّهت هذه الحضارة للسيطرة على الطبيعة والتسلط عليها، وعدّت تلك الغلبة والسيطرة مفخرةً من مفاخرها وفصلت الإنسان عن حضن أمّه الحنون وألقت به في أزمةٍ صعبة طاحنة وجعلت حياته في مهبّ الرياح، وخلقت له أزمة البيئة، وأغرقت العالم في حزنٍ عميق، وأنزلت به بلاءً لا مثيل له منذ بدء الخليقة ولغاية الآن، بحيث إنّه لم يفعل ذلك أيّ شعبٍ متوحشٍ جامحٍ لم يعرف لا الثقافة ولا الحضارة.
 
وليس مبالغاً ما قاله العالمون وأصحاب النظرة الحادّة، حيث إنّهم سمّوا الحركة المدمرة للحضارة الغربية الجارية في الغابات والجبال والمياه والسهول الخضراء والصحاري بـ "الفيضان" الذي يجرف البشر اليوم نحو مستنقعٍ عميقٍ ومرعب، حيث لا يُرى فيه أيّ نافذة حياةٍ أو خلاصٍ[1].
 
إنّ الكارثة لعميقة جداً. إذ قام الإنسان المعاصر بالقضاء على مستقبل البشر وتعلّق بحضارةٍ وتماشى معها، أو حريٌّ بنا القول جعلوه يضطر للتماشي معها بحيث إنّه يصل بنفسه وبيديه إلى ما أشار إليه روجيه غارودي، المفكّر الفرنسي البارز والناقد النافذ البصيرة: "إذا استمرينا بهذه الطريقة في الحياة في غضون الثلاثين سنة القادمة، بنفس المنوال الذي عشناه في الثلاثين سنة الماضية، سوف نقوم بقتل أحفادنا"[2].
 
ولن يُبقي جشع الإنسان المعاصر وإقباله على الاستهلاك الكبير شيئاً من الطبيعة بحيث تستطيع الأجيال القادمة أن تستمر في العيش في أحضانها وجنباتها. وبناءً للإحصاءات المنتشرة في السنوات الأخيرة:
- إنّ استهلاك الفحم الحجري في السنوات الثلاثين الأخيرة يوازي نصف ما تمّ استهلاكه في الثمانمائة سنة السابقة[3].
 
- إنّ نصف ما استهلكه الإنسان من النفط منذ بدء اكتشافه واستخراجه، قد حرقه فقط في السنوات العشر الأخيرة[4].
 
وتمّ قطع واستهلاك ثلث أشجار الغابات منذ العام[5] 1952, وفي السبعين سنة الأخيرة، قضت الزراعات الجديدة على نصف الأتربة الخصبة في ثلاثة أرباع الأراضي الزراعية[6].

فقد اختلّ تعادل دورة الحياة والطبيعة (النظام البيئي): "النفايات أمثال.... النايلون، لا يمكن تصفيتها وامتصاصها ضمن دورة الحياة الطبيعية على الإطلاق وحتى إنّ بعضها يلوّث مراكز الحياة الأولية بشكلٍ قاتل، ومن المتعذّر معالجة ذلك وهي تعرّض بقاء البشر لأخطارٍ حتمية"[7].
 
لقد وضع هذا الجشع المُدهش جميع زوايا الحياة البشرية في مهبّ العاصفة. وقد ظهر تدمير الطبيعة والقضاء على تعادلها وتوازنها على جسم الإنسان وفكره وثقافته أيضاً، وهذا الأمر غير محدودٍ بمنطقةٍ خاصة أو مهد حضارةٍ جديدة، بل إنّه بلاءٌ عمّ الدنيا كلّها وأوقعها في حبائله: "اليوم، ظهرت بشكلٍ واضح النتائج والآثار السلبية للتصنيع على البيئة وخاصةً على الحياة الدينية والنسيج الاجتماعي حيث أوجدت الاضطرابات الثقافية والنفسية للبشر..... ويمكن مشاهدة شيء من هذه الاختلالات والمشاكل في المدن الإسلامية الكبيرة التي نجحت نوعاً ما في مجال التصنيع"[8].
 
وقد بذل الواعون والمطّلعون الذين رأوا الأرض وما عليها على شفير الهاوية، جهداً واسعاً وأدخلوا قضية "المحافظة على البيئة" إلى مرحلةٍ جديدة.
 
في بداية السبعينيات، قام احد أهم رؤساء الصناعة في إيطاليا بجمع أكثر من مئة شخصية من كبار العلماء وأصحاب الرأي في العالم كي يقدّموا تقريراً حول ما سيؤول إليه العالم في نهاية القرن العشرين,وعلى هذا الأساس، تمّ تأسيس هيئة من أصحاب الرأي أُطلق عليها "نادي روما".
 
عملوا في هذا النادي على دراسة تغيّرات العالم في السنوات الأخيرة من القرن العشرين، وعدّوا أهم خمسة تغيّرات ستحصل في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن المذكور وعرضوها على بساط البحث:
1- زيادة عدد السكان.
2- المصادر الطبيعية.
3- الغذاء والمحاصيل الزراعية.
4- المنتجات الصناعية.
5- تلوّث البيئة[9].
 
واليوم، في ظلّ الظلمة التي أحاطت بالعالم، لا يزال هناك بارقة أملٍ في عالم الغرب الصناعي. فقد نشأت في قلب العالم الصناعي انتفاضةٌ جديدة للحدّ من الآثار المدمرة للتكنولوجيا وآثارها المخربة: "لقد تمّ تنظيم هذه الانتفاضة الجديدة لأجل حماية التعادل والتوازن البيئي (الإيكولوجي) بين الإنسان وبيئته: ليتمّ احترام الأراضي، الأشجار، الأنهار والبحيرات التي ماتت على أيدي البشر بسبب التلوّث، وليتمّ حماية البحار والمحيطات والأجواء... فالأرض والماء والسماء وكل الطبيعة، وديعةٌ إلهية سُلّمت إلى الإنسان وأوجِدت للاستفادة منها بشكلٍ متوازن، انطلاقاً من ذلك، الإنسان هو المسؤول عن حفظ الطبيعة"[10].
 
يعتبر الإنسان الواعي المعاصر نفسه خاسراً. فهو لا يرى أنّ جسمه في معرض التهديد فحسب، بل إنّ معنويته وروحه ونفسه في معرض التحلل أيضاً، وهو لا يجد مفرّاً من هذه المخاوف والإضطرابات التي أحاطت بحياته والآن هو قلقٌ على نفسه وقلقٌ على مستقبله ومستقبل أبنائه. وليس صدفةً توجّه الإنسان المعاصر نحو المعنويات التي نُحيّت جانباً لسنواتٍ عديدة[11].

وها هو اليأس مثل الكابوس المرعب يقضُّ مضاجع الإنسان الغربي. ويشكّ الذين يعرفون الصناعة والتكنولوجيا ومطلعون على آثار ذلك وعلى علمٍ بزوايا الكارثة جيداً، يشكّون في أن يستطيع الإنسان التخلص من هذا الوادي المميت المرعب[12]. أدّى هذا القلق والمخاوف والإهتمام إلى بدء حركةٍ جديدة في الغرب ضد تلوّثات المعامل الصناعية و... . وما هو بارز ومهم ومحلّ بحث ودراسة في هذه الحركة، التوجه الحاصل نحو الثقافات الشرقية.
 
يحاول موجدو هذه الحركة تجنّب الآثار الكريهة للصناعة الغربية من خلال اللجوء إلى الثقافات الشرقية. ففي هذه البرهة من الزمن، والتي ضاق البشر بها ذرعاً من تلوث البيئة ويسعى جاهداً في التفتيش عن مهربٍ من ذلك، ومتوسلاً حضناً حنوناً يلجأ إليه من عنف التكنولوجيا. من المناسب أن يكتب العلماء حول ذلك، ليعيدوا عرض وجهة نظر الإسلام ويُطلّوا على التجارب الماضية، خصوصاً في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، لعلّ ذلك يكون مفيداً في تخليص البشر من هذه الحيرة والدوامة التي ابتلوا بها.سنحاول في هذا المقال التقدّم خطوة صغيرة إلى الأمام، والكشف عن بعض زوايا رؤية الإسلام إلى البيئة بمقدار ما يسمح لنا المجال.
 
الطبيعة من وجهَتَيْ نظر
من الواضح أنّ التعرّف على الحضارات مرتبطٌ بمعرفة نوع نظرتها ورؤيتها إلى مجموعة الطبيعة وتفسيرها حول اتصال الإنسان بطبيعة الحضارة المادية. وللحضارة الغربية التي تمثّل وترمز اليوم إلى الحضارة المادية، نظرتها وموقفها من الطبيعة، كما أنّ للحضارة المعنوية والماوراء مادية والتي كان الإسلام في الماضي مظهراً ورمزاً لها، نظرةً وموقفاً أيضاً من الطبيعة.

 الإنسان في الحضارة الغربية مطلقٌ ومنفصلٌ عن السماء. وتعتبر الأرض وثرواتها الكامنة فيها محوراً وأساساً في هذه الحضارة. وتسعى الحضارة الغربية المادية جاهدةً في السيطرة على الطبيعة وأن تجعل الإنسان يهيمن عليها بكلّ ما أوتي من قوة واستثمارها بمقدار ما يستطيع. قد ظهرت في مقابل هذه النظرة المنقطعة عن السماء، مدارس ومذاهب منها مدرسة أصالة الحضارة والمنفعة.
 
ولكن النظرة والموقف من الطبيعة واتصال الإنسان بالطبيعة في الحضارة الإسلامية، مختلفةٌ وعلى منوالٍ آخر.
 
أ- الخلافة:
الإنسان من وجهة نظر الرؤية الإلهية والإسلامية هو خليفة الله على الأرض. وكما أوجد الله الأرض بكلّ حنانٍ ولطف، وحافظ عليها من الآفات وأنزل عليها مطر رحمته وأحبّ الطبيعة، يجب على الإنسان أن يكون كذلك وأن يُكرّمها بكلّ محبة وأن لا يستخدمها بنحوٍ يُوصل إليها الضرر والفساد.في هذه الرؤية، تتصل الأرض بالسماء، وتُلقي الأرض على نفسها خِلعةً سماوية. ويعتبر العمل والكدح على هذه الأرض المتصلة بالسماء والمدّثرة بدثارٍ سماوي، عبادة ونوعاً من العبودية لله. وترتبط هذه العبودية بالخلافة. فالإنسان هو عبدٌ لله ومنقادٌ له، وفي الأرض خليفته. وإذا خرج هذا الخليفة عن مدار الطاعة والإنقياد، يصبح متحرراً من القيود ويشدّ عزيمته في القضاء على الطبيعة. لهذا السبب، جعل الإسلام عبودية الله ركناً لحركة الإنسان. لذا، الإنسان خليفة الله هو عبدٌ ومطيعٌ ومنقادٌ، وليس حاكماً مطلق العنان ومسلطاً على الطبيعة.إذن، لقد جعل الله الإنسان خليفته لإدارة الأرض، إذ يقول عزّ وجلّ لملائكته: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً[13] ويخاطب الإنسان قائلاً: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ...[14].
 
وقد وجّه الله سبحانه هذه الخلافة عبر عبادته والإنقياد لأوامره وأحكامه: ﴿وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ[15].
 
إنّ الإرتباط بين الخلافة والعبودية وتأثيرهما المتبادل واقعٌ حقيقي، ويشكّل ذلك أساس الحضارة الإسلامية، لأنّ الإنسان من وجهة نظر هذه الرؤية الكونية، حاملٌ للأمانة ويجب أن يجعل كلّ شيءٍ في الإتجاه الذي يريده صاحب الوجود والطبيعة، أمانةً من صاحب الوجود وضعها بين يدي الإنسان وعليه أنّ يستخدمها ويحافظ عليها حسبما يريده صاحب هذه الأمانة.
 
وتعتبر الطبيعة في هذه النظرة آيةً وعلامة لإرشاد الإنسان نحو الجمال والكمال المطلق[16]. انطلاقاً من ذلك، لا يحق لأيّ صاحب عقل وشعور في هذه النظرة أن يعزم على تدمير هذه الآية وأن يمنع نفسه من الوصول إلى الكمال المطلق.
 
وفي هذه الرؤية أيضاً، تعتبر جميع الظواهر والمخلوقات والكائنات، أجزاءً مكمّلة ومرتبطة ببعضها بعضاً. وهي تقوم جميعها بوظيفتها بشكلٍ منسجم ومتناغم في ظلّ حقيقة العبودية والإنقياد وتمهّد الأرضية لعبودية الإنسان بإخلاص.
 
ولا يوجد أيّ ظاهرةٍ أو حركةٍ أو جهدٍ من وجهة نظر هذه الرؤية خارج مجال قدرة وإشراف الله تعالى: ﴿وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطً[17].
 
وعندما ينقاد الإنسان لله سبحانه، يسلّم للعبودية لله وسيُعدّه محيطاً بكلّ شيء، وبالتالي لن يوجِد أيّ اختلالٍ واضطرابٍ في نطاق سلطانه الذي تعتبر الطبيعة جزءاً منه، ويستسلم للنظام والقانون الحاكم على الطبيعة ولا يتجاوزه. ويرى الإنسان حينئذٍ الشرق والغرب من الله عزّ وجلّ وملكاً له ويعتقد بأنّ كل ما تقع عليه عيناه، من الله وإلى الله: ﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ...[18].
 
على هذا الأساس، لا يخرج أيّ شيءٍ من حيطة قدرة الله، والإنسان هو عبدٌ ومخلوق وواقعٌ تحت إشراف الله ورعايته ويجب أن يستطيع القيام بما يتناسب وعبوديته لله وأن يستثمر الطبيعة بما يتلاءم وعبوديته. وإذا تجاوز ذلك فقد خان الأمانة وعصى أمر الحقّ وابتلي بمعصية الإسراف والتبذير.
 
إذا خَطَا الإنسان قُدماً متوجّهاً إلى منزلته ومكانته في الأرض والتزم بالعبودية ونظر إلى الأرض كمهدٍ للحياة السليمة وقام بالأعمال الصالحة وجعلها شعاراً في حياته، عندها يستحقّ أن يشمله وعد الله تعالى بخلافته في الأرض: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ ..."[19].
 
فإذ لم يكن بين الخلافة والعبودية اتصالٌ وارتباطٌ وثيقٌ وقوي، سوف تغرق الطبيعة في دوامة الفناء:
"لا يوجد شيء أخطر على الطبيعة من إعمال السلطة في مقام الخلافة على المجتمع البشري حيث تنتفي هنا عبودية إله ويخرج الإنسان عن طاعة أوامره. تعتبر الشريعة الإلهية، بصراحة، أنّ تكليف الإنسان المتديّن يشتمل النظام والبيئة الطبيعية أيضاً. إذ إنّ الإنسان غير مكلّف بإطعام الفقير فحسب، بل مكلّفٌ أيضاً بعدم تلويث المياه الجارية.ليس المطلوب من وجهة النظر الإلهية الإحسان للوالدين فقط، بل المطلوب زرع الأشجار والتعاطي المناسب مع الحيوانات أيضاً"[20]. فالإنسان المسلم هو الذي يستلهم الوحي ويعظّم ارتباطه بملكوت عالم الوجود، في نفس الوقت الذي يعيش في عالم المُلك ويتجنّب أذية الحيوانات والنظر إليها نظرة دونية وتدمير الطبيعة بل يعتبر المحافظة على الطبيعة والظواهر النامية في أحضانها تكليفه الديني والإسلامي.
 
ويذكر الإمام علي عليه السلام هذا الرابط والإتصال بين الإنسان والطبيعة بشكلٍ جميل: "اتقوا الله في عباده وبلاده فإنّكم مسؤولون عن البقاع والبهائم"[21].
 
لا يجوز للمسلم أن يكون حرّاً ومن دون قيود في تصرّفه بالطبيعة واستخدامه لها. ولا يحقّ له أن يكرّم نفسه عن طريق تدمير الطبيعة والظواهر الطبيعية ونهبها. بل هو مكلّف رعاية حقوق الله، وحقوق جميع المخلوقات صغيرةً كانت أم كبيرة. فهو لا يتمتّع بالحرية المطلقة في أن يحصل على كلّ شيءٍ لنفسه وأن لا يفكر سوى في حقوقه وأن يعتبر نفسه غير مدينٍ لأحد أو لأيّ شيء.
 
"انطلاقاً من أنّ مقام الإنسان في العالم الإسلامي التقليدي لم يكن مطلقاً، لذلك لم تكن حقوق الإنسان مطلقة أبداً على حساب النسيان الكامل لحقوق الله وسائر مخلوقاته. والإنسان الحداثوي والغربي، بخلاف المسلم التقليدي... لا يرى نفسه مديناً لأحدٍ أو لشيءْ. حتى إنّه لا يشعر بالمسؤولية قِبال موجودٍ آخر، ما وراء الإنسان. في المقابل، كان المسلم التقليدي، أو الإنسان المسلم، يعيش دائماً واعياً لحقوق الله وحقوق الآخرين بما في ذلك العالم غير الإنساني أيضاً. فهو يبقى على وعيٍ تام بمسؤوليته أمام الله وكذلك أمام مخلوقاته"[22].

ب- الإستعمار:
هناك علاقة خاصة بين الإنسان والطبيعة من وجهة النظر الإسلامية. فالإنسان قد خُلق من التراب ويحب أن يحافظ على حرمتها كالأم، ولا يجوز له ظلمها وإلّا سيكون عاقاً للأرض. ويكون تكريم الأرض بإعمارها ومنع القضاء عليها: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ...[23]  يشير القرآن الكريم إلى أنّ إعمار الأرض يقع على عاتق الإنسان، وهو من عليه المحافظة على محلّ نموه والإمتناع عن خرابه.والمقصود من مفهوم الإستعمار (بعكس المفهوم السلبي السائد حالياً) في القرآن، الإعمار. ويضع اللغويون الإعمار في النقطة المقابلة لكلمة التدمير والتخريب. يقول الراغب في المفردات: "العمارة نقيض الخراب"[24].

يعتبر الإمام علي عليه السلام في عهده التاريخي والمهم لمالك الأشتر، أنّ من واجبه إعمار المدن التي تقع ضمن نطاق سلطته[25]. ويُستفاد من الكثير من الموارد التي ذُكرت في المصادر الإسلامية حول هذا الموضوع ولا يتسع المجال للإشارة إليها هنا، فالإسلام يستثمر الطبيعة والظواهر الطبيعية في بناء حضارته على أساس المعايير الصحيحة والإنسانية، ويخالف أيّ حضارةٍ قامت على أساس تخريب الطبيعة.
 
ج- ترويض الطبيعة:
تكررت في القرآن عبارةُ "تسخير" عدة مراتٍ وهي تشير إلى كيفية تعاطي وتعامل الإنسان المسلم مع الطبيعة. وتحمل هذه العبارة والعبارات المرادفة لها والمشتركة في مادتها مثل "المسخّر" و... رسالةً بناءة وتُظهر نظرة الإسلام إلى الطبيعة.
 
ويقول الشهيد مرتضى مطهري في هذا المجال:
"لقد تكررت هاتان الكلمتان في القرآن الكريم مراراً. وتتضمن مفهومي "الترويض (التسخير)" و"الإنقياد (المـُسخّر)". وقد ذُكر في القرآن تسخير القمر، الشمس، الليل والنهار، البحار، الأنهار، الجبال (للنبي داوود عليه السلام) والرياح (للنبي سليمان عليه السلام) وكل ما في الأرض (لأجل الإنسان). ومن البديهي أنّ المقصود في كل هذه الموارد أنّ هذه الأمور خُلقت بنحوٍ تكون فيه تحت سيطرة الإنسان ومحلّ استخدام واستثمار الإنسان. وقد تحدّثت كل هذه الآيات حول كون الأشياء مسخّرة للإنسان، وليس كون الإنسان مسخّراً للأشياء..."[26].
 
ورغم أنّ القرآن الكريم قد اعتبر الطبيعة مسخّرةً للإنسان بحيث يستطيع استثمارها كيفما يشاء. إلاّ أنّه يجب أن يجعل ذاك الإستثمار في سبيل كسب كمال ورشد ونمو قيمه الإنسانية، لذا وجّه هذا التحذير بأنّ "التسخير" غير "التخريب والتدمير".
 
ولا يجب بذريعة الإستثمار القضاء على الطبيعة وتدميرها. بل يجب استثمارها بطريقةٍ تضمن نشاط وحيوية استمرارية الحياة للأجيال القادمة. وإنّ أي نوعٍ من الإستغلال العشوائي وغير الصحيح، فهو ظلمٌ للطبيعة: ﴿اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [27].
 
تشير الجملة الأخيرة من الآية الشريفة إلى إستثمار البشر للنِّعم الطبيعية بشكلٍ غير صحيح. وعلى أساس هذه الآية الشريفة، الظالم والكافر هو الإنسان الذي لا يشكر النعمة ويقضي على كلّ ما سخّره الله للإنسان ووضعه بين يديه.
 
يعتبر تلويث مياه البحار، واستخدامها بطريقةٍ غير صحيحة وغير عاقلة،


وإهدار الطاقة وتلويث البيئة بالملوّثات المختلفة و.... ابتعاد عن الله والشريعة الإلهية المقدسة وإقبال نحو الشيطان.
 
تعتبر ثقافة الإسلام الحضارية الطبيعةَ مهداً لكمال ورشد ورقي الإنسان[28]، انطلاقاً من ذلك تعادي هذه الثقافة كلّ من يسعر النار في هذا المهد ويجعله غير آمن لكمال ورقي ورشد الإنسان وتعدّه في زمرة الظالمين والعاصين وغير الشكورين الذين سوف يتذوقون العذاب الإلهي الشديد.
 
ولم يُلق نظام الطبيعية عبثاً. فالسحاب والرياح والقمر والشمس والأفلاك....، كلّها تتحرك كي يصل الإنسان إلى رشده وكماله المادي والمعنوي وكي يكسب دنياه وآخرته بالتمام والكمال.
 
ويقول الإمام الصادق عليه السلام للمفضل بن عمر: "فإنّك إن تأملت العالم بفكرك وميّزته بعقلك وجدته كالبيت المبنيّ المعدّ فيه جميع ما يحتاج إليه عباده. فالسماء مرفوعة كالسقف والأرض ممدودة كالبساط، والنجوم منضودة كالمصابيح، والجواهر مخزونة كالذخائر وكلّ شيءٍ فيها لشأنه معدُّ، والإنسان كالمُملّك ذلك البيت والمخوّل جميع ما فيه وضروب النبات مهيأة لمآربه وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه..."[29].
 
إنّ بيتاً فخماً كهذا، قد اشتمل على كلّ شيءٍ بما يتناسب مع مصلحة البشر، يجب أن يعيش تحت سقفه المزيّن بالمصابيح الجميلة والمتلألئة في سكينةٍ واطمئنان، والإستفادة من متاعه المتنوع في سبيل رقيه ورشده.
 
د- المحافظة على الطبيعة:
إنّ الله هو الحفيظ. ومن وجهة نظر الرؤية الكونية الإسلامية، يقع كلّ الوجود ضمن مجال "حفظ" الله تعالى: ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ[30].

ويجب على الإنسان المسلم أن يُزيّن نفسه بهذه الصفة الحسنة، وأنّ يستظلّ بظلّها في كلّ لحظات حياته، وأن يكون حفيظّا في أيّ نطاقٍ ومجالٍ كان وحافظاً للأمانات والنِعم والمنافع العامة والبيئة الإنسانية.
 
وتشمل كلمة "الحفيظ" على كلّ نوعٍ من الحفظ والصيانة[31]، وتضمّ دائرة الحفيظ أيضاً منع الإبتذال والإتلاف والتدمير[32]. وأن يكون الإنسان حفيظاً، فهذا يصون المجتمع من البلاءات والآفات. وقد اعتبر النبي يوسف عليه السلام نفسه مؤهلاً لإدارة الأمور الإقتصادية للمجتمع المصري لأنّه كان حفيظاً وعليماً، ورأى في نفسه القدرة على إنقاذ مصر من القحط والمصائب القادمة، لذلك عندما طلب عزيز مصر منه أنّ يؤدّي دوراً في الإدارة الإجتماعية، اقترح عليه النبي يوسف عليه السلام: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ[33].
 
واعتبر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الأرضَ أمّ الإنسان الذي يجب أن يقوم بحفظها لأنّها هي من يقدّم له عصارة روحها حتى يبقى حيّاً ويسكنه كمهدٍ في جنباتها بطمأنينة ويطعمه من موائدها لتنمي جسمه. وبناءً لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّ الأرض فضلاً عن أنّها أمٌ، وأنّها تربّي البشر من عصارة روحها، وأنّ لها حق الأمومة على الإنسان، فإنّها تسجّل أيضاً العمل الصالح والسيِّئ في باطنها وتُخبر به: "تحفّظوا من الأرض فإنّها أمّكم وأنّه ليس من أحدٍ عاملٍ عليها خيراً أو شراً إلا وهي مخبرةٌ به"[34].
 
إذن الأرض، في هذه النظرة المقدسة، كالأمّ وهي مقدسة لأنّها أمين الله وتُخبر بالأعمال الخيرة والشريرة.من الواضح أنّ النظرة الأمومية إلى الطبيعة، والتي علّمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأتباعه واعتبار نفسه ابنها ومتربيّاً في حجرها، ستؤثر بشكلٍ كبير في كيفية الإستفادة منها واستثمارها.

 وانطلاقاً من هذه الرؤية إلى الطبيعة، يعتبر الإنسان نفسه بحاجةٍ إليها كما يحتاج الولد إلى أمّه.


[1] هشدار به زندكان، روجيه كارودي، ترجمة علي أكبر كسمائي/25، هاشمي، تهران.
[2] ن.م، 24.
[3] ن.م، 34.
[4] ن.م.
[5] ن.م،35.
[6] ن.م، 36.
[7] توسعه ومباني تمدن غرب، الشهيد آويني/7، ساقي، طهران.
[8] جوان مسلمان ودنياي متجدد غرب، دكتور حسين نصر، ترجمة مرتضى اسعدي، ص184.
[9] جهان امروز وفردا، علي اكبر كسمائي، ص327، مؤسسة اطلاعات، طهران.
[10] نياز به علم مقدس، الدكتور حسين نصر، ترجمة حسن ميانداري، ص204، مؤسسة فرهنكي طه، طهران.
[11] جوان مسلمان ودنياي متجدد، ص208.
[12] نياز به علم مقدس، ص139.
[13] سورة البقرة، الآية 30.
[14] سورة الأنعام، الآية 165.
[15] سورة الحديد، الآية 7.
[16] سورة فصلت، الآية 53.
[17] سورة النساء، الآية 126.
[18] سورة البقرة، الآية 115.
[19] سورة النور، الآية 55.
[20] نياز به علم مقدس، ص221.
[21] نهج البلاغة، صبحي صالح، ترجمة سيد جعفر شهيدي، الخطبة 167، ص174، آموزش انقلاب اسلامي، طهران.
[22] نياز به علم مقدس، ص226.
[23] سورة هود، الآية 61.
[24] المفردات في غريب القرآن، راغب الأصفهاني، عبارة "عَمَر".
[25] نهج البلاغة، الرسالة53.
[26] مجموعة آثار الشهيد مطهري، ج2، ص115، صدرا، طهران.
[27] سورة إبراهيم، الآيات 32 - 34.
[28] سورة النبأ، الآية 6.
[29] بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي، ج3، ص115، مؤسسة الوفاء، بيروت.
[30] سورة هود، الآية 57.
[31] المفردات في غريب القرآن، عبارة "حفظ".
[32] مجمع البحرين، الطريحي، مادة "حفظ"
[33] سورة يوسف، الآية55.
[34] نهج الفصاحة، ترجمة ابو القاسم بايندهن العدد 1130، جاويدان.

30-05-2017 | 15-39 د | 2689 قراءة


 
صفحة البحــــث
سجـــــــل الزوار
القائمة البريـدية
خدمــــــــة RSS

 
 
شبكة المنبر :: المركز الإسلامي للتبليغ - لبنان Developed by Hadeel.net