الهدف:
بيان ضرورة التنبّه والحذر عند كلّ كلمة يريد الإنسانُ التفوّه بها إذ لعلّ كلمة
واحدة تكبّه على منخاره في نار جهنّم.
تصدير الموضوع:
"وهانت عليه نفسه من أمَّر عليها لسانه..."1.
مقدّمة:
الكذب نقيض الصدق، ويقال رجل كاذب وكذَّاب وتكذاب وكذوب، وعرَّفه العلاّمة المجلسيّ
بأنّه الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه، سواء طابق الإعتقاد أم لا، على المشهور،
وقيل: الصدق مطابقة الإعتقاد، والكذب خلافه وقيل الصدق مطابقة الواقع والإعتقاد
معاً والكذب خلافه2.
وباعتبار أنّ الكلام هو الذي يتّصف بالصدق والكذب ومن الطبيعيّ أنّ آلته اللسان،
وهنا تارة ننسب الكذب إلى الكلام فنقول كلام كاذب وأخرى نصف به اللسان وثالثة نصف
الشخص فنقول رجل كاذب أو كذَّاب، المهمّ أنّ الوصف للناطق أو المنطق أو المنطوق به
ولكن مع هذا نجد أنّ القرآن الكريم استعمله في غير ذلك من الأمور الصامتة أي التي
ليس لها اقتضاء النطق كالدم على قميص يوسف عليه السلام، قال صاحب الميزان قدس سره:
أضيف الدم إلى المصدر، أي قال بدم كذب وأريد به الفاعل للمبالغة أنّ بدم كاذب
وبيِّن الكذب. وفي الآية إشعار بأنّ القميص وعليه دم كان على صفة تكشف عن كذبهم في
مقالهم فإنّ من افتَرسَته السباع وأكلته لم تترك له قميصاً سالماً غير ممزّق، ولا
يخلو الحديث الكاذب والأحدوثة الكاذبة من تناف بين أجزائه وتناقض بين أطرافه أو
هناك شواهد من أوضاع وأحوال خارجيّة تحفّ به وتنادي بالصدق وتكشف القناع عن قبيح
سريرته وباطنه وإن حسنت صورته.
وما يهمّنا الحديث عنه هو ما يكون له اقتضاء النطق. وبالتتبّع للروايات وجدنا أنّ
المصدر (الكذب) ومشتقّاته قد استُعملت كثيراً بسبب كثرة الروايات المتضمّنة من جهة
لهذا المفهوم ومن جهة أخرى بسبب التشديد في أمر الكذب وثالثة بسبب العمل على
معالجته وإزالته من النفوس وتنقية الكلام منه.
وبما أنّ اللسان هو آلة النطق فقد يتّصف بالصدق صدقاً وقد يكون بالكذب، وهنا سوف
نسلّط الضوء على اللسان ثمّ نصرف الكلام حول الكذب ومتعلّقاته.
احفظ لسانك. كيف؟؟
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم أوصني، قال: "احفظ لسانك"، قال يا رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم أوصني قال صلى الله عليه وآله وسلم: "احفظ لسانك، ويحك وهل يكبُّ النّاس
على مناخرهم في النّار إلّا حصائد ألسنتهم"3.
أمام هذه الوصيّة الشريفة على الإنسان أن يجعل الضوابط التالية لحفظ لسانه:
الأوّل: أن يجعله لسان صدق
فإنّ اللسان كذلك يمنح صاحبه السمعة الطيّبة والذكر الحسن، ويدلّ عليه ما جاء في
القرآن الكريم في سياق بيان عطاياه ومننه لأنبيائه ورسله فقال:
﴿وَوَهَبْنَا
لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾4
ويؤيّده كلام أمير المؤمنين وهو يمتدح صاحب اللسان الصالح: "ألا وإنّ اللسان
الصالح يجعله الله تعالى للمرء في النّاس خير له من المال يورثه من لا يحمده"5.
الثاني: أن يجعله لساناً واحداً
من الضروريّ عندما يحدّث الإنسان عن شيء أو يتحدّث بأمر فليكن الحديث مطابقاً
للواقع لأنّه ربّما تحدّث في زمان آخر أو مكان آخر عن نفس الموضوع وأمام بعض من
حدّثهم فيختلف كلاماه فيفتضح أمامهم، والطريق الأسلم أنّه إذا أراد الحديث فليكن
كلامه كلاماً واحداً وإلى ذلك أشار أمير المؤمنين بقوله: "واجعلوا اللسان
واحداً.... فإنّ هذا اللسان جَموح بصاحبه"6.
الثالث: أن يجعله في خزانته
كثيراً ما يحرص المرء على ماله ويأبى أن يختزن جواهره إلّا في مكانها المعدّ لها
حفظاً من أن تقع تحت أعين الحسّاد. فضلاً عن وقوعها تحت أيدي السارقين. وأيضاً تجده
يحمي نفسه من الخطر ويقي جسده من الحرّ والقرّ ولم يفرِّط بأيّ شيء من حواسِّه نعم
عندما يصل الأمر إلى اللسان فيفلت له عقاله ليتفوّه بما يشاء كيف يشاء ومتى يشاء،
وكأنّ ذلك كلّه مباح له أو مأذون له وكأنّه سوف لن يترك أي آثار لعدم ترتّب
الآثار
أو مأمون من تعقّب السؤال، يقول الإمام عليّ عليه السلام: "وليخزن الرجل
لسانه... والله ماأرى عبداً يتّقي تقوى تنفعه حتّى يخزن لسانه... فمن استطاع منكم
أن يلقى الله تعالى وهو نقيّ الراحة من دماء المسلمين وأموالهم، سليم اللسان من أعراضهم
فليفعل"7.
الرابع: أن يجعله وراء قلبه
إنّ النسبة بين الأمام والوراء هو نسبة التضايف كما قرّر في محلّه، فإذا كان الشيء
وراء فطبيعيّ أن يكون ما يقابله أمامه والعكس صحيح، وهنا لو قارنّا بين اللسان
والقلب بلحاظ الوراء والأمام لكان القلب وراء اللسان تكوينيّاً وأمّا الروايات
فأرشدت، ولأمر ضروريّ يتعلّق بحفظ الإنسان من فلتان لسانه، إلى عكس ذلك، بمعنى أنّه
إذا أراد الكلام فلا يتكلّم إلّا بعد التفكير والتأمّل والتدبّر فيما يترتّب على
كلامه من آثار، فإن كانت مفيدة فليتكلّم وإلّا فليصمت، ومن هنا جعل ميزاناً للتفريق
بين العاقل والأحمق وإليه أشار أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "إنّ لسان المؤمن
وراء قلبه وإنّ قلب المنافق وراء لسانه، لأنّ المؤمن إذا أراد أن يتكلّم بكلام
تدبّره في نفسه فإن كان خيراً أبداه وإن كان شرّاً واراه. وإنّ المنافق يتكلّم بما
أتى على لسانه لا يدري ماذا له وماذا عليه، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم: لا يستقيم إيمان عبد حتّى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه8.
وقال عليه السلام: "قلب الأحمق في فيه ولسان العاقل في قلبه"9.
إحذر! اللسان بضعة من الإنسان
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "ألا وإنّ اللسان بضعة من الإنسان"، فينبغي
له أن يحذر الأمور التالية:
أوّلاً: هفوات اللسان، بأن يتحدّث بما لا نفع في الكلام أو ينطق هزراً، أو
يتلفّظ بما خالف الواقع أو الإعتقاد، أو تقرّب باللسان وخالفه الجنان، إلى غير ذلك
من السقطات والهفوات. فممّا ناجى به الإمام عليّ عليه السلام ربّه بقوله:
"اللهمّ اغفر لي ما تقرّبت به إليك بلساني ثمّ خالفه قلبي، اللهمّ اغفر... وسقطات
الألفاظ... وهفوات اللسان"10.
ثانياً: أن يصبح لسانك سبعاً، إن لم يحكم لسان الإنسان العقل بحيث إنّه لم
يفكّر في كلّ كلمة يراد التفوّه بها وأيضاً لم يراع الضوابط الشرعيّة لصار هذا
اللسان كالسبع الضاري المؤذي لغيره وربّما ترتدّ الأذيّة عليه أحياناً، وما أجمل
هذا التصوير على لسان الإمام عليّ عليه السلام من تنزيل اللسان الذي خلّى عنه صاحبه
منزلة السبع فقال: "اللسان سبع إن خلّى عنه عقر"11.
ثالثاً: أن يخالف لسانك جنانك، إذا خالف الكلام المنطوق به لما اعتقد به في قلبه
عُدَّ في مصاف الكذّابين، وهذه المخالفة هي طبع المنافقين حيث إنّهم يظهرون شيئاً
ويبطنون خلافه. ودلّ عليه ما جاء في كتاب
أمير المؤمنين إلى محمّد بين أبي بكر حين
ولّاه مصر: "... ولكنّي أخاف عليكم كلّ منافق الجَنان عالم اللسان يقول ما
تعرفون ويفعل ما تنكرون"12.
رابعاً: أن تقول بلسانك ولم تفعله بجوارحك، ربّما يجمع المرء علوماً غزيرة ولكن لم
تخضع جوارحه لها، كأنّه لم يستفد من علومه ومعارفه التي حصَّلها فهو كالماشي على
غير هدى أو كمن يحمل مصباحاً بيده ثمّ أطفأه ولم يكد يرى موضع قدميه فسرعان ما يهلك
أو يتردّى. ومن الحكم المضيئة ما قاله أمير المؤمنين في هذا المجال: "أوضعُ
العلم ما وقف على اللسان وأرفعُه ما ظهر في الجوارح والأركان"13.
خامساً: أن تؤمر على نفسك لسانك، من جعل الأمارة للسانه على نفسه بأن يصبح اللسان
هو وجه النّفس ومقدّمها وأميرها فقد عرّضها للإهانة والمذلّة, لأنّ المفروض أن يكون
أميرها وقائدها هو قلب الإنسان وعقله ودينه، فمن تركها إلى اللسان فَقَدَ مروءته
وعرَّضها لإستخفاف النّاس به والتطاول عليه بالجرأة والسخرية. وأروع ما قاله أمير
المؤمنين عليه السلام ما يخصّ المقام: "وهانت عليه نفسه من أمَّر عليها لسانه"14.
هذه إشارات ولطائف تتعلّق بأمر اللسان، وما لم يذكر فهو أضعاف
ممّا ذكر ومن المعروف
أنّ جارحة اللسان هي أخطر الجوارح إذا طابت طاب الإنسان وإن خبثت خبث الإنسان، ومن
مصاديق خبثه: الفتنة بين النّاس، والنميمة، والغيبة، والسبّ والشتم والأذيّة،
والكذب، وكلّها من الذنوب الكبيرة التي تُدخل صاحبها نار جهنّم والعياذ بالله.