المحاضرة الأولى: حرمة الدم في الإسلام

الهدف:
بيان خطورة أن يقدم الإنسان على قتل نفس بغير حقٍّ.

تصدير الموضوع:

عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لزوال الدنيا جميعاً أهون على الله من دمٍ سُفِكَ بغير حقٍّ"1.

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يغرَّنَّكم رحب الذِّراعين بالدم فإنّ له عند الله قاتلًا لا يموت". قالوا: يا رسول الله، وما قاتل لا يموت؟ فقال: "النّار"2.


95


مقدّمة:
الأحكام الشرعيّة الصادرة متفاوتة من حيث الشدّة والضعف، وهي مختلفة باختلاف موضوعاتها، ولذا نجد أنّ الإسلام قد احتاط في بعضها كالفروج والدماء، ومعنى الاحتياط في الأوّل هو التشدّد في أحكام العلاقات الجنسيّة وذلك لمنع التناسل من طريق الحرام أو الشبهة، وذلك لأنّ المولود من طريق الحرام سوف تترتّب عليه أحكام شرعيّة خاصّة علماً أنّ كلّ ما حصل فهو خارج إرادته وليس له مدخليّة في ذلك، ومع هذا فلا يمكن إصلاحه تكوينيًّا، وأيضاً لا يجوز قتله تحت أي عنوان فالآثار المتأخّرة سببها الخطأ المتقدّم ولكيلا نصل إلى المتأخّر احتاطت الشريعة في المتقدّم.

وأمّا بالنسبة للاحتياط في الدماء بمعنى أنّ الإسلام قد أصدر مجموعة من الأحكام يتشكّل منها منظومة من القوانين ذات الطابع التشريعيّ وهي على مرحلتين. ففي الأولى منها هي تلك الأحكام التي تقف حائلاً أمام كلّ من يوسوس له شيطانه للإقدام على القتل، وهي التي تحذّره من العواقب التي تنتظر القتلة والمجرمين سواء في الدنيا أو في الآخرة.

وفي المرحلة الثانية هي الأحكام التي تقع عقيب حصول الجريمة لترشد إلى سبل كيفيّة المعالجة حتّى لا يعالج القتل بالقتل. وأمّا حكمة الاحتياط في الدماء فلعلّه لأجل أنّ النّفس إذا أزهقت فلا تعالج بإرجاع الروح إلى الجسد ولذا شُرعت أحكام تجبر هنا النقص ولتمنع الفساد الذي ربّما يحصل بسبب القتل وحتّى لا يستسهل النّاس القتل.


96


أنواع القتل:
تارة يقدم الإنسان على قتل نفسه وهو المعبّر عنه بالانتحار، وأخرى يقدم على قتل الغير، وهذا بدوره ينقسم إلى نوعين فقد يكون القتل أصاب امرأً في عالم الدنيا وقد يكون أصاب من هو في عالم الأرحام.

أمّا قتل الإنسان نفسه عمداً فممَّا لا شكّ فيه هو عمل حرام وجريمة كأيّة جريمة قتل موصوفة، وباعتبار أنّه قاتل حقيقيّ فسوف يحاسب على أنّه قاتل، فعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "من قتل نفسه متعمّداً فهو في نار جهنّم خالداً فيها"3.

نعم باعتبار أنّه لم يبق على قيد الحياة فتسقط الأحكام المعيّنة في خصوص دار الدنيا المتوجبّة على القاتل من القصاص وتسقط الدية عنه وأيضاً الكفّارة الواجبة في بعض الصور لعدم إمكانيّة أن يؤخذ منه شيء، ولا تخرج من تركته وأمّا محاسبته وحسابه يوم القيامة فذاك إلى الله سبحانه وتعالى.

وأمّا النوع الآخر من القتل، وهو قتل الأغيار، فلو أقدم على قتل الجنين في بطن أمّه فتارة يكون الجنين قبل أن تنفخ فيه الروح وأخرى بعد نفخ الروح فيه، ففي الأولى فعليه الكفّارة المقرّرة بحسب المراحل


97


المذكورة في الكتب الفقهيّة، وأمّا في الثانية فهو قاتل للنفس المحترمة ويترتّب على ذلك دفع الدية كاملة.

قلب العبد قبل القتل:

طالما لم يرتكب العبد جريمة قتل في دار الدنيا فيبقى في فسحة من دينه ويبقى قلبه يقبل الرغبة والرهبة إلى أن يصبح قاتلاً فينكس قلبه ويخسر دينه، وجزاؤه بنصّ القرآن الكريم هو جهنّم، إذ هناك موازاة بين بقاء الروح في الجسد وسلامة دين الإنسان، فإذا أزهق الروح فقد نكس قلبه ويدلّ عليه ما جاء عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يزال العبد في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً"4.

وممّا روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: "لا يزال قلب العبد يقبل الرغبة والرهبة حتّى يسفك الدم الحرام، فإذا سفكه نكس قلبه..."5.

أوّل عمليّة قتل:

يحدّثنا القرآن الكريم أنّ أوّل عمليّة قتل حصلت عندما أقدم قابيل على قتل أخيه هابيل بسبب الحسد والغيرة، وقد أشار إلى هذا الموضوع بقوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ


98


لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ6.

يمكن الاستفادة من الأمور التالية:

أوّلاً: أنّ الحاجز الأساسيّ عن الإقدام على عمليّة القتل هو الخوف من الله سبحانة وتعالى، ولذا فإنّ زوال الخوف من النّفوس يسهِّل على البعض إزهاق النفوس بغير حقّ.

ثانياً: يضاف إلى الإثم الذي يتحمّله القاتل بسبب القتل إثم المقتول وذنوبه، وقد دلَّ عليه ما رُوي عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "من قتل مؤمناً متعمّداً أثبت الله على قاتله جميع الذنوب وبرئ المقتول منها، وذلك قوله عزَّ وجلّ مستشهداً بالآية المذكورة"7.

ثالثاً: إنّ القتل العمديّ بغير صورة حقّ فجزاؤه جهنّم ويدلّ عليه قوله تعالى:
﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا8.

رابعاً: إنّ بعض الملكات الخبيثة التي تبتلى بها النّفس تكون سبباً مساعداً على ارتكاب الجريمة وسفك الدماء.


99


فكأنّما قتل النّاس جميعاً:
النّفس إن كانت محقونة الدم فهي ممّا حرّم الله تعالى ولذا نهى عن قتلها، وهنا لو تجاوز أحد حدود ما حرّم الله تعالى وأقدم على إزهاق الروح وسفك دمها من دون حقّ فهو عمل حرام يؤدّي إلى الفساد في الأرض لكونه يجرُؤ على الجريمة، ولذا نزل منزلة من قتل النّاس جميعاً، وهنا قد سأل حمران بن أعين الإمام الباقر عليه السلام عن معنى فكأنّما قتل النّاس جميعاً، فإنّما قتل واحداً؟ فقال عليه السلام: "يوضع في موضع من جهنّم إليه منتهى شدّة عذاب أهلها، ولو قتل النّاس جميعاً إنّما كان يدخل ذلك المكان"، قلت فإن قتل آخر؟ فقال: "يُضاعَف عليه"9.

ويؤيّد ذلك ما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لَزوالُ الدنيا جميعاً أهون على الله من دمٍ سُفِكَ بغير حقّ"10.

أوّل قضيّة يُحكَم بها:

الأحكام الصادرة عن المحكمة الإلهيّة العادلة يوم القيامة تختلف باختلاف الجنايات والجنح والمخالفات في دار الدنيا وأمّا جدولة الموضوعات للمحاكمة إنّما هي خاضعة للمهمّ والأهمّ، وباعتبار أنّ الموضوع الأوّل الذي يحضر بين يدي الله تعالى هو الدماء فهذا يكشف كشفاً مبيناً عن عظمة الذنب المرتكَب وخطورة الجناية المفتعلة بما لها علاقة بالدماء.


100


فقد ورد في الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "أوّل ما يحاكم الله فيه يوم القيامة الدماء، فيوقف ابنَيْ آدم فيفصل بينهما، ثمّ الذين يلونهما من أصحاب الدماء حتّى لا يبقىمنهم أحد، ثمّ النّاس بعد ذلك حتّى يأتي المقتول بقاتله فيتشخّب في دمه وجهه فيقول: هذا قتلني، فيقول: أنت قتلته؟ فلا يستطيع أن يكتم الله حديثًا"11.

من أعان على القتل:

قد يكون الإنسان قاتلاً وإن لم يباشر عمليّة القتل، كما لو أعان غيره على قتل الغير فيما لو أرشده إلى مكان المقتول أو قدّم له معلومات تسهِّل الوصول إليه، أو أثار مشاعر البعض فتحرّك وقتل أحدًا، إلى غير ذلك من الأسباب الغير مباشرة لعمليّة القتل، فهذا له محجمة من دم المقتول، ويدلّ عليه ما جاء في الروايات: "من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي الله يوم القيام مكتوبًا بين عينية آيس من رحمة الله"12 وأيضاً: "إنّ الرجل لَيُدفع عن باب الجنّة أن ينظر إليها بمحجمة من دم يُريقه من مسلم بغير حقّ"13.

أعظم القتل:

لقد تبيّن أنّ سفك الدم الحرام هو من أعظم الذنوب، وهو أوّل ما يحضر للمحاكمة بين يدي الله تعالى، ولكنَّ أعظم شيء في القتل هو قتل


101


المؤمن لأجل إيمانه، فهذا له العقوبات التالية:
• جزاؤه جهنّم.
• مخلَّد فيها.
• الله غاضب عليه.
• ملعون.
• له عذاب عظيم.

وهذه العقوبات الخمس قد ترجمتها الآية 93 من سورة النساء، ويضاف إليه، فلا يوفّق للتوبة في دار الدنيا، ويدلّ ما جاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام حينما سُئل عن المؤمن يقتل مؤمناً متعمّداً، هل له توبة؟ فقال: "إنّ كان قتله لإيمانه فلا توبة له.."14.


102


هوامش

1- الترغيب والترهيب، ج 3، ص 293، رواه البيهقي وقريب منه مع اختلاف يسير عند مسلم والترمذي.
2- وسائل الشيعة، ج19، ص 4.
3- وسائل الشيعة، ج19، ص 13.
4- كنز العمّال، ح39907.
5- كنز العمّال، ح39951.
6- سورة المائدة، الآيات 27 – 29.
7- وسائل الشيعة، ج19، ص 7.
8- سورةالنساء، الآية 93.
9- فروع الكافي، ج7، ص 271.
10- الترغيب والترهيب، ج3، ص 293.
11- وسائل الشيعة، ج19، ص 4 وأيضاً ورد في مجموعة كتب من الصحاح وغيرها عند السنّة باختلاف يسير.
12- كنز العمّال، ح 39895.
13- كنز العمّال، ح39912.
14- وسائل الشيعة.
     
السابق الصفحة الرئيسة التالي