الهدف:
بيان موارد ما ينبغي النظر إليه وإيجابيّة الغضّ، وبيان تذوُّق حلاوة العبادة
بالغضّ.
تصدير الموضوع:
عن الإمام الصادق عليه السلام: "فإنّ البصر لا يُغضُّ عن محارم الله إلّا وقد سبق إلى
قلبه مشاهدة العظمة والجلال".
مقدّمة:
العين هي إحدى الحواس الخمس وقد خلقها الله سبحانه وتعالى ليتمكّن الإنسان من التمييز
والتفريق بين الألوان، وهي إحدى منافذ النّفس إلى الطبيعة و"العين جاسوس القلب
وبريد العقل"1، وما تراه العين يُحفظ في القلب حتّى قيل:
"القلب مصحف البصر"2،
فلا ينبغي أن نغمض العين عن كلّ شيء لأنّ ذلك يفوّت علينا الكثير من كسب العلوم
وتحصيل المعارف، ولا يجوز أن نطلق العنان لأبصارنا لأنّه سيؤدّي إلى الوقوع في
المحذورات، وينبّت في القلب الفسق ويولّد الغفلة والتخبُّط في المحظورات، لأنّ
العين إذا أبصرت الشهوة عمي القلب عن العاقبة: "والعين أقلُّ شيء في الجسد
شكراً"3، وحدّ الاعتدال في استعمال العين أنّ المرء إن نظر فليكن في نظره عبرة
وإن غضَّ طرفه فليكن غضُّه لا عن غفلة، ولا يكون فاقد البصر أقدر من واجده، فكم من
أشخاص يأتون بالعجائب وهم فاقدون لأبصارهم! وكم من أفراد كثرت حسراتهم وطال ندمهم
ولهم أعين كبيرة! لأنّ العبرة في أنّ القلب يبصر الأشياء بعد بصر العين، أم هو
مكتوب في عداد الغامضين، وحينها يصدق على صاحبها أنّه من أولئك الذين لهم أعين لا
يبصرون بها فهم كالأنعام، ولا يستوي من يبصر ولا عين له، ومن لا يبصر مع أنّ له
عيناً، وكيف كان فالحديث
عن النظر والبصر وعن الغضّ والإغماض هو حديث متشعّب وطويل
وسنجعله في جهتين:
الأولى: النظر
والثانية: الغضّ.
محاور الموضوع
الجهة الأولى: النظر للاعتبار
ولنبدأ حديثنا في هذه الجهة عن حقّ البصر على صاحبه، فيكفينا في ذلك ما عن مولانا
الإمام زين العابدين عليه السلام حيث قال: "وأمّا حقّ البصر، فغضُّه عمَّا لا
يحلُّ لك، والبصر باب الاعتبار"4،
بهذا البيان قننّ لنا الإمام عليه السلام الأبصار والغضّ وحدّدهما.
أ- أطلاق النظر: فلا يصلح للإنسان أن يطلق النظر، ومن الفساد غضُّه دائماً، فعن
أمير المؤمنين عليه السلام قال: "من أطلق ناظره اتعب حاضره، من تتابعت لحظاته دامت
حسراته"5،
وقال: "من أطلق طَرْفَه كثر أسفُه"6.
ب- النظر إلى المحذورات: حينما نقول لا يصلح النظر إلّا إلى البعض
فعلينا أن ننظر
في البعض الذي يصلح إليه النظر جاء في الخبر عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ليس في
البدن شيء أقلّ شكراً من العين فلا تعطوها سؤلها فتشغلكم عن ذكر الله عزَّ وجلّ"7،
وأمّا ما لا يصلح النظر إليه بصورة كلّيّة فهي المحذورات، وقد جاء في ذلك عن النبيّ
عيسى عليه السلام: "إيّاكم والنظر إلى المحذورات فإنّها بذار الشهوات ونبات
الفسق"8، وأيضاً هو مضمون وصيّة الإمام الصادق عليه السلام لعبد
الله بن جندب إنّ
عيسى بن مريم عليه السلام قال لأصحابه: "إيّاكم والنظرة فإنّها تزرع في القلب الشهوة
وكفى بها لصاحبها فتنة، طوبى لمن جعل بصره في قلبه ولم يجعل بصره في عينه"9.
ج- نظر ليس له ثمر: قد يلتزم الإنسان بعمليّة التقنين في النظر وكذلك فقد لا ينظر
إلى المحذورات فيأتي السؤال هنا: "فهل ذلك كافٍ لإعطاء النظر حقّه أم لا"؟ فالجواب
هو وإن كانت تلك الخطوات رئيسيّة وفي غاية الأهمّيّة إلّا أنّها غير كافية فالإمام
زين العابدين عليه السلام عندما قال بأنّ البصر باب الاعتبار، فالكثير الكثير قد لا
ينظر إلى كلّ شيء أو إلى بعض المحرّمات ولكن إذا نظر إلى الأشياء فهو مصحوب بالغفلة
وعدم الاعتبار،
فيكون النظر لهواً، وهو نوع من عمى العين حكماً، ويشهد له قول أمير
المؤمنين عليه السلام: "كلّ نظر ليس فيه اعتبار فلهو"10، وفي حديث آخر
"إنّ المؤمن إذا نظر اعتبر"11.
د- قد يكون النظر عبادة: من الفيوضات الإلهيّة على العبد أن جعل أبواب تعبّده مشرعة
أمام القاصدين ولم يجعل لها حدّاً لكي يصل إليه الراغبون، ومن جملة تلك الأبواب
النظر إلى بعض الأشياء كالنظر إلى العالِم وإلى الوالدين برأفة وفي المصحف وإلى ما
يذكِّر الإنسان بربّه وبآخرته. وقد ورد في ذلك عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله
وسلم حيث قال: "النظر إلى العالم عبادة، والنظر إلى الإمام المقسط عبادة والنظر إلى
الوالدين برأفة عبادة والنظر إلى الأخ تودّه في الله عزَّ وجلّ عباده"12، وقد زاد في
رواية أخرى "وزاد في المصحف وفي البحر"13.
الجهة الثانية: غضّ البصر علامة الأمانة
عبادة الله سبحانه وتعالى لم تتوقّف على الفعل وتحريك العضلات، فقد تتحقّق من خلال
الترك والكفّ عن الفعل ومن جملة هذه المفردات غضُّ البصر، وترك النظر وقد صرح
القرآن الكريم بذلك في قوله سبحانه
وتعالى:
﴿قُل
لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ
أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾14، فالنظر إلى ما لا يحلُّ النظر إليه فهو زنا العين
كزنا الفرج، ولذا فالغضُّ من سمات الأمين، ويدلّ عليه ما رواه صفوان عن الإمام
الرضا عليه السلام في قول الله عزَّ وجلّ:
﴿