المحاضرة الأولى: علاقة الشهيد بأهله في الدنيا والآخرة

الهدف:
بيان عمق وحقيقة العلاقة بين الشهيد وأهله في الدنيا والآخرة.

يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: لسنا نادمين على أنّ الشهادة أصبحت نصيباً لأعزّتنا، فهذا نهج مرضٍ لشيعة أمير المؤمنين.

مقدّمة:
يقول أمير المؤمنين عليه السلام مخاطباً النّاس وهو في مقام الترغيب في الجهاد والشهادة: "أيّها النّاس، إنّ الموت لا يفوته المقيم ولا يعجزه


41


الهارب، ليس عن الموت محيد ولا محيص، من لم يُقتل مات، إنّ أفضل الموت القتل"1.

ولا بأس بالإشارة إلى نقاط عدّة نبني عليها علاقة الشهيد بأهله.

النقطة الأولى

الشيء الذي يجب أن يبقى حاضراً في أنفسنا وأن نستحضره دائماً في مرحلة الوعي التامّ أمر الانتقال من نشأة الدنيا إلى نشأة الآخرة إذ ليس هناك يقين لا شكّ معه كاليقين بالموت الذي لا يداخله أو يزاوله الشكّ ولذا فلا محيد عن الموت ولا محيص.

النقطة الثانية

تحديد الأجل ليس بيد الإنسان إذ لا يمكننا أن نحدّد وقت الرحيل إلى عالم الآخرة، بل هو بيد الله سبحانه وتعالى. نعم ما يقع تحت اختيارنا ونعمل إرادتنا فيه هو السعي لاختيار أفضل أسباب الموت، وهو القتل في سبيل الله.

النقطة الثالثة

هذا السعي يتجلّى في أمرين، بأن نحبّ الشهادة ونعشقها، ومن ثَمَّ نسعى لتحصيلها، وإن لم نُقتل في الميدان إلّا أنّه قد نبلغ بها منازل الشهداء، كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: "من سأل الله الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه"2.


42


النقطة الرابعة
عندما ينفر المجاهد في سبيل الله إنّما ينفر للدفاع إمّا عن دين الله سبحانه وتعالى، وإمّا عن وجود النّاس واستقرارهم وإمّا عن الأرض والعرض، أو غير ذلك من الأسباب الموجبة للخروج، إذن هناك جامع مشترك بينها وهو الدفاع عن الإنسان مُعتقداتِه متعلّقاته. وهنا فإنّ النّاس يعتبرون أنّ من يدفع عنهم المخاطر والتهديدات ويعمل للحفاظ عليهم له مكانة مقدّسة في قلوبهم وتحفر أسماؤهم في وجدانهم. وهذا بحدِّ ذاته تخليد للمجاهدين والشهداء ويدخلون ذاكرة التاريخ في الدنيا من بوّابة تخليد أسمائهم في ذاكرة النّاس ووجدانهم.

النقطة الخامسة

من يعش في هذه الدنيا مهاناً ذليلًا فلا يشعر بقيمة حياته ولا يستقيم معاشه، لأنّ الموت بعزّة خير من حياة المذلّة وهذا ما تعلّمناه من مدرسة أمير المؤمنين ومن مدرسة كربلاء، وهو منسجم مع طبيعة الإنسان الحرّ والشريف، وقد أشار إلى هذه الحقيقة أمير المؤمنين عليه السلام وهو يذمُّ أصحابه على تكاسلهم قائلاً لهم: "... ماذا تنتظرون بنصركم، والجهاد على حقّكم؟! الموت خيرٌ من الذلّ في هذه الدنيا لعزّ الحقّ"3.

وممّا قاله سيّد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام حتّى غدا واحدًا من العناوين والشعارات التي يرفعها أحرار العالم ما جرى بينه وبين الحرّ بن


43


يزيد الرياحيّ حينما عارض مسيره إلى كربلاء، وقد دار حوار طويل بينهما حتّى قال له الحُرُّ: قد أمرنا إذا نحن لقيناك ألَّا نفارقك حتّى نقدمك على عبيد الله بن زياد، وقد قابله الإمام الحسين عليه السلام بالموقف الذي ينمّ عن العزّة والكرامة وقال للحرّ: "الموت أدنى إليك من ذلك"، ثمّ قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: "إنّه قد نزل من الأمر ما قد ترون... ألا ترون أنّ الحقّ لا يعمل به، وأنّ الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقّاً، فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة، ولا الحياة مع الظالمين إلّا برما"4.

وباعتبار أنّ الشهداء أورثوا أمّتهم وأهاليهم العزّة وهذا معناه بناء حياة حقيقيّة وطيّبة لهم لا موت فيها، فكانت علاقة النّاس والأهل بشهدائهم هي علاقة بمصدر الحياة ومنبع العزّة، ولذا فهم مخلَّدون بمحبّة النّاس جيلًا بعد جيل وإن طالت السنون والأيّام، ولذا نجد في كلّ مجتمع وفي كلّ دولة أنَّهم يفتخرون بشهدائهم ويعملون على صنع ما يخلِّد أمجادهم وتضحياتهم.

البداية بداية فخر واعتزاز:

ونريد بالبداية هنا أي منذ تكوينه في عالمي الأصلاب والأرحام يقول? سبحانه وتعالى في محكم آياته عن واحدة من محطّات مسيرة الإنسانيّة التكوينيّة وهي محطّة الصلب والترائب حيث يقول: ﴿خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ


44


* يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ5.

ومن ثَمَّ ينتقل إلى عالم الأرحام وما نريد قوله أنّ الشهيد بما يحمل من نور للشهادة وحيث كان يتقلّب في أصلاب الرجال إلى أرحام النساء، فهو مبعث للشعور بالفخر والاعتزاز لما كانوا عليه من مصاحبة هذه الأنوار لهم وهذا من مواطن المدح والثناء كما نجد ذلك حينما نقف لزيارة سيّد الشهداء فنقول: "وأشهد أنّك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة". وهذا الشعور بالفخر والعزّة يصيب إخوته وأخواته بأنّهم كانوا أيضاً في عالمين قد سكنهما أخوهم الشهيد. إذن البداية هي بداية عزّة وفخر وشموخ.

الشهيد مع أهله في الدنيا

لو كان يعلم الأهل منذ البداية أنّ مولودهم الجديد هو شهيد في المستقبل لتعاملوا معه بطريقة أخرى وبأسلوب مختلف. ولكن تعلّقت المشيئة الإلهيّة أن يخفي ذلك على النّاس لحكمة هو أعلم بها. ولكن ممّا لا شكّ فيه أنّ لكلّ شهيد صفات يتحلّى بها أو كان يقوم ببعض الأعمال التي تترك أثرها في نفوس المحبّين والمتعلّقين، يستحضرونها في كلّ وقت وعند كلّ مناسبة، وهذا ما نقرأه أو نسمعه عن كلّ شهيد تقريباً، حتّى إنّ البعض منهم - وهم على قيد الحياة - إنّما نقرأ فيهم ملامح الشهادة لما


45


يصدر عنهم من تصرّفات وأقوال يغمر الآخرين بعطفه وحنانه ولاستقامته في شخصيّته وسلوكه، سواء على مستوى العبادة كمواظبته على الصلوات في أوقاتها، أو الحضور في المسجد بصورة دائمة أو غالباً أو مواظبته على التهجّد ليلاً واهتمامه بقراءة القرآن والأدعية والمناجاة، أو على مستوى المعاملات من صدقه وأداء الأمانة أو اهتمامه في خدمة الآخرين وحرصه على التخفيف من معاناتهم وآلامهم، فكلّ هذه المناقبيّات العالية تجعل إحساسًا ينتاب الآخرين، بأنّه مشروع شهيد.

نبأ الشهادة من مواطن البشرى أم الصبر؟

لو أُخبر الإنسان بأنّه مكتوب له الشهادة فهل يعتبر هذا من مواطن الصبر أو من مواطن البشرى؟ وهكذا أيضاً عندما يشاع خبر استشهاده، فمن أي المواطن هو؟

في مدرسة أمير المؤمنين عليه السلام هو من مواطن البشرى لا الصبر، ويدلُّ عليه ما جرى معه حينما أخبره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنّ الشهادة من خلفه، فبعد معركة أُحد وما أصاب جسمه من جراحات بلغت نيِّفًا وسبعين جراحة مضافًا إلى كسر يده اليمنى وما رافق ذلك من أجواء نفسيّة متعبة، توجّه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسؤال: "يا رسول الله أوليس قد قلت لي يوم أُحد حيث استُشهد من استُشهد من المسلمين وحيدت عنّي الشهادة فشقّ ذلك عليَّ فقلت لي: أبشر فإنّ الشهادة من ورائك؟ فقال لي: إنّ ذلك لكذلك فكيف صبرك إذاً؟ فقلت: يا رسول الله، ليس هذا من


46


مواطن الصبر ولكن من مواطن البشرى والشكر"6.

هذه هي الثقافة التي تعلّمها شهداؤنا وعوائل شهدائنا من مدرسة عليّ عليه السلام هي أنّ الشهادة من مواطن البشرى والشكر لأنّه رحل إلى الحياة الباقية وورَّثهم العزّة والشرف كما يستبشرون حينما يتلقّون نبأ ولادته، وإن كان في المقارنة بين بشرى الولادة والشهادة مسامحة إذ الولادة وإن تحمّل البشرى للأهل إلّا أنّها مجبولة بشيء من الخوف والقلق عليه وأين هي من بشرى الحياة الخالدة وحياة الروح والريحان والمكلّلة بغار التضحية والإيثار؟

إلى طالبي الشهادة:

يا طالب الشهادة، أترغب بالفوز في صدق تجارتك مع الله سبحانه وتعالى؟ وترغب أن تكون في صفوف شهداء كربلاء مع سيّدهم سيّد الشهداء؟ وترغب في ملاقاة أمير المؤمنين عليه السلام؟ وهل أنت بحقّ مشتاق لرؤية عليّ عليه السلام؟ إذا كُنْتَ صادقاً فاعلم أنّ إمامك ومولاك عليّ هو أشوق للقائك. وهو الذي يصف طالبي الشهادة بقوله: "مَنْ رائحٌ إلى الله كالظمآن يريد الماء، الجنّة تحت أطراف العوالي، اليوم تبلى الأخبار، والله لأنا أشوق إلى لقائهم منهم إلى ديارهم"7.


47


علاقة الشهيد بأهله في الآخرة
إنّ تلقى الشهداء لأهلهم يوم القيامة لهو خير من الدنيا وما فيها، إذ بعد السفر الطويل وتحمّل عنائه ومشقّته وما يحمل من خوف ورهبة، وبعد أن نفدَ الزاد من الراحلة وانقطع في بلد الغربة، وهو على هذه الحالة، يلتفت يمنة ويسرةً لعلّ نظره يقع على من يتكلّم لغته ليمدّ إليه يد العون والمساعدة حتّى ينقل إلى أهله مسروراً ويصل إلى وطنه محبوراً. فإذا هو على هذه الحالة وجاء من يعرفه ويمكن الاعتماد عليه ليكون سببًا لراحته، وهذا حالُ الشهداء يوم القيامة حينما يأتون إلى أهليهم ومعارفهم ليأخذوا بأيديهم إلى حيث الراحة والخلود، لأنّ الشهداء قد أعطوا مقامًا محمودًا وهو الشفاعة لهم. ويدلُّ عليه ما جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ثلاثة يشفعون إلى الله فيشفّعهم: الأنبياء ثمّ العلماء ثمّ الشهداء"8.

وعنه أيضاً: "... ويشفع الرجل منهم في سبعين ألفًا من أهل بيته وجيرته حتّى إنّ الجارين يختصمان أيّهما أقرب"9.

خاتمة

يقول الإمام الخيمنيّ قدس سره لسنا نادمين على ما أريق من دماء شبابنا الزكيّة في طريق الإسلام. لسنا نادمين على أنّ الشهادة أصبحت نصيباً لأعزّتنا، فهذا نهج مرضٍ لشيعة أمير المؤمنين عليه السلام منذ صدر الإسلام وحتّى الآن.


48


هوامش

1- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج1، ص 306.
2- صحيح مسلم، ج3، ص 1517.
3- شرح نهج الباغة، ابن أبي الحديد، ج6، ص 90.
4- تاريخ الطبري، ج4، ص 305؛ اللهوف في قتلى الطفوف، ص 340؛ تحف العقول، ص 176.
5- سورة الطارق، الآية 6-7.
6- بحار الأنوار، ج32، ص 2401.
7- بحار الأنوار، ج71، ص 69.
8- مستدرك الوسائل، ج11، ص 20.
9- بحار الأنوار، ج97، ص 14.
     
السابق الصفحة الرئيسة التالي