بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
يقول الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون﴾1.
إن عمل طلبة العلوم الدينية هو عمل الأنبياء، ويجب أن يكون الهدف من التفقه في الحوزات الدينية التبليغ وانذار الناس لتستقيم حياة الناس من خلال هذا التبليغ.
وبما أن حركتنا التبليغية هي استمرار حركة الأنبياء، لذلك يجب أن نعتمد الأسلوب الذي اعتمده الأنبياء. وقد أوضح القرآن الكريم البرنامج التبليغي للأنبياء ومنه يمكننا الاطلالة على أسلوب التبليغ. مثال ذلك: نزلت أول الآيات القرآنية الشريفة في غار حراء على الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وفيها: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾2.
نلاحظ هنا أن الله تعالى يوضح للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله ومن خلال الآيات الأولى أن أسس الدين تقوم وتعتمد على مبنى العلم.
تلقى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله الآيات الأولى في غار حراء فيخرج قاصداً المنزل، يتعبه الطريق فيخلد للاستراحة، ثم ينزل جبرائيل بالآيات الأولى من سورة المدثر ويقرأها على النبي صلى الله عليه وآله. فأصبحت هذه الآيات البرنامج الذي اعتمده الرسول صلى الله عليه وآله طيلة 23 سنة. وتشتمل الآيات الشريفة على أمور ستة وهي في الواقع دروس خالدة للتبليغ الديني. فيما يلي تتحدث حول الدروس السنة للتبليغ الديني.
النماذج والدروس التبليغية الخالدة
يقول الله تعالى في سورة المدثر: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾.
1 ـ جاء في الآيات الشريفة المتقدمة الحديث حول الأمر الأول الذي أصدره الله تعالى
﴿قُمْ فَأَنذِرْ﴾. صحيح أن كلمة قم تعني الوقوف إلا أن هذا المعنى غير مقصود هنا. فالإنسان عندما يريد القيام بعمل ما عليه أن يعبأ بكافة القوى والقدرات المحيطة به. وكمثال على ذلك يجب على الشخص أن يجهز كافة امكانياته وقدراته في الحرب العسكرية لمواجهة العدو، فلا يمكن مواجهة العدو في حالة النوم والاسترخاء. على أساس أن الإنسان عندما يكون نائماً يفتقد قدرة السيطرة على قواه. فإذا جلس استجمع بعض القوى وإذا وقف تسلط على كافة قواه وتمكن من محاربة العدو. وهذا ما تشير إليه كلمة قم. الآية تريد القول: أيها الرسول إذا أردت أن ـ تُعدّ نفسك للتبليغ فعليك اعداد وتعبئة كافة قواك لتتمكن من أداء وظيفة التبليغ.
2 ـ الانذار
الانذار هو المسؤولية الثانية للمبلغ. جاء في الآية الشريفة: ﴿قُمْ فَأَنذِر﴾. والانذار كناية عن التبليغ، لأن للتبليغ مراحل متعددة أولها الانذار. وإذا أردنا أن نرسم شيئاً على لوحة مرسوم عليها، فيجب أولاً أن نزيل الرسم السابق ثم نبدأ الرسم، حيث لا يمكن الوصول إلى الهدف مع وجودها.
وأما أنبياء الله تعالى فيبدأون التبليغ بالانذار ليصلوا بعد ذلك إلى المراحل اللاحقة أي التخلية والتحلية والتجلية. جاء في القرآن الكريم حول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة﴾3.
لا تحصل التزكية من دون الانذار ولا تحصل التحلية من دون التزكية. ومن هنا ينبغي القول أن الانذار أفضل أساليب التبليغ، على أساس أن قبول المستمع يتضاعف عندما ترتعد فرائضه.
عندما نريد ادخال دواء إلى الجسم بواسطة الحقنة فيجب بداية أن تخرق الابرة الجلد، وما لم يتم خرق الجلد لا ينتقل الدواء إلى الداخل. وإذا أردنا ادخال الموعظة إلى القلب فينبغي أولاً الدخول إلى القلب أو خرق القلب. وما لم يتمكن الخطيب من خرق القلب والدخول إليه فلن تؤثر موعظته، والانذار هو أحد الأساليب المستعملة في الدخول إلى قلب المخاطب.
إذا أردنا تشجيع الناس على التوبة في ليلة القدر فينبغي أولاً الشروع بالانذار والحديث حول بعض المسائل كالموت، وسكراته والليلة الأولى في القبر، وضغطة القبر، وجهنم والملائكة الغلاظ الشداد... هنا تستعد قلوب المخاطبين لقبول مسألة التوبة عند ذلك تؤثر التوبة.
3 ـ وضوح الهدف
إن عالم اليوم هو عالم الاعلام والتبليغ حيث تصرف أموال كبيرة على ذلك. وينبغي أن يكون هدف المبلغ واضحاً، وإلا فإنه سيقضي على عظمة التبليغ فيما إذا كان لا يمتلك هدفاً أو كان هدفه خاطئاً.
وتوضح الآية الشريفة: ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ هدف التبليغ. وتريد الآية الشريفة القول مخاطبة الرسول صلى الله عليه وآله: لقد أنزل البشر المقام الإلهي إلى أدنى المستويات فجعلوه في مستوى الأصنام، لذلك عليك أن تعمل لتعظيم صورة الله تعالى من وجهة نظر الناس.
وما دام الناس متعلقين بالدنيا فلا يمكنهم النمو والتطور، لذلك يجب أن نعمل لتكون الدنيا صغيرة في أعين الناس ليصلوا بذلك إلى النمو والتطور والرفعة. يجب أن نعمل ليكبر الله تعالى عند الناس وليسلموا أمورهم كلها إليه. ما معنى أن نردد في الصلاة مرات عديدة: الله أكبر؟ معنى ذلك أن الأعمال التي نقوم بها تقوم على أساس التسليم إلى الله تعالى، وما دمنا لا نعتبر الله أكبر من الجميع فلا تحصل لنا حالة التسليم المحض.
إن هدف التبليغ توجه الناس إلى الله تعالى وللوصول إلى هذا الهدف يجب أن يصبح الله تعالى كبيراً عند الناس، فيتركوا كل ما سواه ويلتجئوا إليه تعالى.
4 ـ التواضع، شرط أساسي
التواضع هو أحد الشروط الأساسية التي يجب أن يتحلى بها المبلغ. جاء في الآية الشريفة: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ وقد أوضح المفسرين أن الناس كانوا متكبرين وكان تكبرهم يقوم على أساس الجهل، كانوا يخيطون لباسهم بشكل طويل جداً بحيث يجرونها على الأرض فتحمل الأوساخ. طبعاً كانوا يخيطون اللباس بشكل طويل للدلالة على العظمة.
أراد الله تعالى أن يلفت نظر النبي صلى الله عليه وآله إلى مسألة التواضع فأشار إليها كناية عن طريق قوله تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾. وهذا يعني أن اللباس لا يجب أن يكون طويلاً إلى درجة أن يجري على الأرض، وهذا دلالة على التواضع.
إن الذي يرغب في ارشاد وهداية الناس يجب أن يكون من الناس ومعهم. ونصبح من الناس إذا اختلطنا معهم. وما لم يصبح المبلغ متواضعاً لا يمكنه أن يكون من الناس وهذا يعني أنه لا يتمكن من التأثير عليهم. وأما المبلغين الموفقين فهم الذين يعيشون مع الناس ويختلطون بهم.
5 ـ الابتعاد عن الرجز
يتمحور الأمر الإلهي الخامس حول الابتعاد عن المعاصي يقول الله تعالى: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾. أما المعاصي وبجميع أنواعها الفكرية والأخلاقية والعملية فتؤدي إلى الفشل في تبليغ الدين. فالضعف العقائدي والأخلاقي والعملي يؤدي إلى عدم مؤثرية التبليغ. وأما إذا كانت أخلاق المبلغ سيئة فإن جهوده ستذهب هباءً. لذلك نقول بوجوب عصمة الأنبياء والأئمة الأطهار وذلك منذ الطفولة إلى نهاية الحياة، بحيث يكون معصوماً عن جميع الذنوب سواء الكبيرة أو الصغيرة وسواء العمدية أو السهوية.
عندما أراد النبي موسى عليه السلام الذهاب للتبليغ، قال: ﴿وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ﴾4. وعندما واجه النبي موسى عليه السلام فرعون بدأ فرعون الحديث مؤكداً على نقطة الضعف هذه، حيث خاطبه بأنه قد قتل شخصاً في السابق. وهذا يعني أن فرعون بدأ العمل على اضعاف تبليغ موسى فاستحضر ملف القتل. طبعاً النبي موسى عليه السلام لم يكن مذنباً مع أن فرعون وأتباعه كانوا يعتبرونه كذلك فاستفادوا من هذه المسألة.
من هنا يجب القول ان الذين يعدون أنفسهم للتبليغ ينبغي أن يكونوا أطهر الناس وأفضلهم حتى لا تظهر أي نقطة ضعف في مسيرتهم التبليغية.
6 ـ الحؤول دون التمنن
فيما يتعلق بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ﴾ يمكن ذكر نقطتين:
ألف ـ يؤدي التمنن إلى إزالة أثر العمل. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى﴾5.
لو قام شخص باعطاء صدقة إلى فقير ثم مننه عليها فإن صدقته ستفقد الأثر المطلوب منها، وعندما يقوم الشخص بارشاد وهداية الناس ثم يمننهم على ذلك فإن هدايته لن تكون مفيدة.
ب ـ لعل من أبرز الأمور التي تجعل الإنسان فاشلاً احساسه بأنه وصل إلى المرحلة النهائية. لا ينبغي أن يظن المبلغ بأنه قام بعمل مهم. ينبغي عليه أن يظهر أعماله ويدعي بأنه قام بكذا وكذا.. ومهما عمل الإنسان سيبقى قليلاً لا بل هناك المزيد للعمل. وعندما يشعر الشخص بأنه يحمل المسؤولية الإلهية عند ذلك ينظر إلى عمله على أنه ليس شيئاً مهماً.
سرّ الموفقية
الأمر الأخير من الأوامر التي ذكرتها الآية الشريفة قول الله تعالى: ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾. وهذا يعني أن تبليغ الدين عمل صعب يحمل في طياته العديد من المشكلات والصعوبات، وإذا كان الصبر مفقوداً فلن يكون المبلغ موفقاً في عمله. والصبر في التبليغ من جملة الصبر على الطاعة حيث إن الصبر ثلاثة أنواع: الصبر على الطاعة، الصبر على المصيبة والصبر على المعصية.
الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله قدوة التبليغ
تلقى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله الأمر الإلهي بالتبليغ في الآيات الأولى فطبقها طيلة 23 سنة، لذلك ينبغي علينا البحث عن الأساليب التي اعتمدها من بين الحوادث والوقائع التي حصلت في حياة الرسول صلى الله عليه وآله. يقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾6. والقرآن الكريم هو أفضل شارح لحياة الرسول صلى الله عليه وآله. لذلك يجب أن نطّلع أيضاً على الكيفية التي تحدث فيها القرآن الكريم حول الرسول وما هي الأساليب التي أشار عليه باتباعها.
آية الله الحاج حسن امامي
1- التوبة: 122.
2- العلق: 1 ـ 5.
3-الجمعة: 2.
4-الشعراء: 14.
5- البقرة: 264.
6-الأحزاب: 21.