بسم الله الرحمن الرحيم
"الصبر مفتاح الدرك، والنجح عقبى من صبر"1.
كلمات ذهبية نطق بها أمير المؤمنين عليه السلام وهي تعبر عن قانون وسنة إلهية عامة وثابتة بثها الله عز وجل في الاجتماع الإنساني ليستعين بها على صعوبات ومشقات الحياة، وليستبصر من خلالها في العسر والكبد الذي يعانيه في أغلب المهمات التي يقوم بها وفي مختلف الأبعاد.
وكلامنا في هذه المقالة عن حرفة الكتابة التي تعتبر من أهم ما مارسته الإنسانية من آلاف السنين وحتى الآن. ويكفي في بيان أهمية الكتابة أنه لولاها لما استطاع الإنسان تناقل خبراته وعلومه وتاريخه من جيل إلى جيل.
لقد عانى المجتمع الإنساني القديم كثيراً حتى ينحت لنا شيئاً من تراثه وتاريخه. فالكتابة والنقوشات الحجرية قبل اكتشاف الجلود والأوراق كانت هي الوسيلة المتداولة في الكتابة. ومن هنا نعلم كم صَبَرَ أجدادنا على كتابة مقاطع صغيرة في سبيل أن لا يندثر تاريخ المجتمع البشري ويضيع في متاهات الماضي السحيق.
فالصبر إذن كان هو السلاح الأمضى في معركة النقوش الكتابية.. وما زال الصبر هو ذاك السلاح الأجدى لإنسان العصر الحديث ليكتب ويؤلف رغم تطور الوسائل والادوات التي تعينه على ذلك. والسر في ذلك أن الكتابة ليست مجرد إمساكٍ بقلم والشروع بالكتابة على ورقة بيضاء. الكتابة هي استحضار موضوع ومعان وأفكار.. الكتابة هي عملية إضافة وتجديد في الفكر البشري. الكتابة هي صياغة الأفكار بطريقة مناسبة وبلغة واضحة وجميلة لتصل نقية عذبة إلى ذهن القارئ. وكل هذا يحتاج إلى جهد وإلى صبر.
في بعض الأحيان قد يصرف الكاتب ساعات يبحث في موضوع ثم لا يصل بعدها إلى نتيجة. أو أنه قد يشرع في فكرة ويكتب حولها صفحات ثم يتبين له عدم صحتها أو دقتها. وقد يحتاج الكاتب في موارد عديدة أن يقرأ ويختفي بين أرتال الكتب لفحص عبارة أو نص.
ثم إنه بعد الكتابة، يحتاج الكاتب إلى مراجعة وتنقيح ما كتبه. ويحتاج كذلك أن يقرأ نفس الأفكار أو العبائر مرات عديدة للتدقيق فيها أو تصويبها وهذا أيضا يحتاج إلى صبر.
ثم إن الكاتب الذي ينشر ما يكتبه عليه أن يتحلى بالصبر على النقد.. وأن يمتلك روحاً راقية وصدرا منشرحاً يتقبل أي فكرة أو رأي بنّاء يخالف ما كتبه.
ومن هنا يمكن فهم هذه العبارة التي قالها أحد كبار الكتّاب من أن النجاح في الكتابة يأتي لأولئك الذين لديهم القليل من الموهبة لكن الكثير من الصبر. وهو يقصد ان المعيار الأساس في النجاح هو الصبر لا الموهبة. وإن كانت الموهبة فيما لو ضمت إلى الصبر فإنها تصنع إنجازاً عظيماً.
ينقل أحد العلماء عن المرجع الديني السيد المرعشي النجفي تجربته في مجال الكتابة والتأليف ومعاناته وصبره على ذلك. فقد قال قدس سره: العلماء في قم خلال أشهر الصيف – حيث الحوزة تعطل دروسها لشدة الحر – يخرجون من قم إلى أماكن خضراء ذات مناخ طيب للاصطياف، ولكن كنت أتحمل حرارة الصيف القاتل، وأتجرع حرارة المدينة من أجل الكتابة والتحقيق، وكنت استظل جدار الدار، وبين ساعة وأخرى أحمل كتاباتي باحثاً عن الظل، ومرت سنين على هذه الحال أكتب ثم أكتب...
وينقل أيضاً أن العلامة الطبطبائي قدس سره كان هذا حاله أثناء تأليفه لتفسير الميزان.
في الختام.. كما شرعنا بكلمة علوية نختم أيضا بكلمة من دوحته المباركة صلوات الله وسلامه عليه حيث قال: "من مات وميراثه الدفاتر والمحابر وجبت له الجنة"2.
فرع إعداد المواد في موقع المنبر
1- ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج 2، ص 1559.
2-العلم والحكمة في الكتاب والسنة، محمد الريشهري، ص 52.