بسم الله الرحمن الرحيم
نقضي كالكثيرين من بني جنسنا أعمارنا بسنواتها وشهورها وأيامها والساعات بل الآنات في لهاث كأنه الأزل بحثاً عن الله...
نطلق الأحاسيس تارة والفكر أخرى في أرحب الوجود نتلمس دليلاً هنا أو آية هناك أو أثراً هنالك لنبحر عبرها إلى مطلوبنا وكم تطيش سهامنا وتستغرق في تيه خطانا...
ويطول التطواف والعمر نزف وتهالك، وفجأة وغالباً بلا موعد يأخذ أسماع قلوبنا رجع صوت أصيل ليوقظ حنيناً كأنه إذن بل أذان: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ...﴾.
ليمد إبراهيم عليه السلام خيوط أذانه حبلاً رؤوفاً ولتجدنا مأسورين بسحره إلى بيت عتيق كحمام متوله هائم نحو ري لعطش مقيم...
ولندور بعدها حول البيت بلا عطر يميزنا، ولا ثوب بديع الأناقة يزيننا، ولا عمة ولا تاج أو صولجان...
كأن يداً عطوفة جردتنا وتركتنا في بقاع تحاكي بتجردها وعريها تجردنا وعرينا عن كل ما استعرناه لستر عوراتنا...
هناك نحن مجردون عراة إلا من ثوبين رحمة وتفضلاً لتظهر لأعين القلوب حقيقة أننا فقراء وفي الفقر اقامتنا...
هناك كلٌّ منا هو فرد لا غير في تيه وضياع وتلاشٍ بين أفراد لا يزيدهم اجتماعهم إلا شعوراً بوحدةٍ وقد ذابت الفرادة والتميز وامتلأ واحدنا وحشة وغربة... فكل واحد هو واحد ووحيد وعلى حدود الصفر في التعداد... غير أن يداً حانية عطوفاً لم تبرح بل لم تغادر مبالغة في عناية وحنو... كأن الفرد مخلوق وتر لا له قبل ولا بعد لرب لا خلق له غيره فكل العناية والتدبير واللطف لهذا الوحيد... ليشعر أحدنا كأن الله هو ربه وحده وإلهه وحده ما غادرت شمسه أفق نفسه أبداً ولا دنا منها إلى مغرب أفول... ليحلو بعدها الترداد مع سيد الشهداء عليه السلام: "كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك، متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك، ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟؟؟".