يقول تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن
تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ
مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن
سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى﴾1.
هاتان الآيتان فيهما من الإشارات الجليلة والعظيمة ما يستحق التوقف عندها والتأمل
فيها مليّاً. ومن الاستفادات التي نحصل عليها منهما:
أولاً: إن ثمّة علاقة متبادلة بين الإقبال على الأمور المادية والغفلة، وهي
علاقة التأثير والتلازم، فكأنه كلما غَفل عن ذكر الله إستغرق أكثر بالماديات، وكلما
أقبل على الماديات وعلى الدنيا غَفِل عن ذكر الله بل أوغل في الغفلة عن ذكر الله
تعالى.
ثانياً: إنَّ عَبَدَة الدنيا الذين هم بالحقيقة موتى القلوب على حد قوله
تعالى: ﴿أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا
يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ هم
غير مؤهلين لأن يصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم جهوده لهدايتهم.
ثالثاً: إن آخر نقطة من العلم الذي يمكن أن يصل إليه المُعرضون عن ذكر الله
والغافلون عنه والذين ينقطعون إلى الدنيا ومادياتها هو في حدود الدنيا، وبالتالي هو
فانٍ كما أن الدنيا فانية. فهم رغم أنّ آيات الله مبثوثة في كل نواحي الوجود فأي
علم حتى لو كان يتعلق بالتقنيات والصناعات والماديات من شأنه الإيصال إلى الله
والتعريف بالله وفتح العقول والقلوب على الله؛ لكن عندما يكون كلّ همّ الإنسان هو
الدنيا فقط ومحدوداً بحدود المادة والماديات فإن ذلك سيعمي العقل والبصيرة عن شهود
آيات الله وبالتالي شهود الحضور الإلهي في ما دقَّ وفي ما جلّ.
رابعاً: لا بدَّ من الإشارة إلى أن أمر الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وعبره لكل من يتولى مسؤولية نشر الدعوة إلى الله بالإعراض عن أمثال هؤلاء لا ينافي
تبليغ الرسالة الذي هو الوظيفة الأساسية والتي بها تتم الحجة فالإعراض إنما يكون
بعد إتمام الحجة مع الوصول إلى اليقين بعدم التأثير.
1- سورة النجم، الآيتان: 29 ـ 30.