... لنكمل مع الإمام علي عليه السلام ما بدأه من حكمة إذ قال: "العلم وراثة
كريمة والآداب حلل مجددة" بأن أضاف إلى ذلك "والفكر مرآة صافية"1
ليس خفياً أنه تارة يراد بالفكر القوة المفكرة، وأخرى يراد به حركة هذه القوة،
ويظهر كما ذهب إليه بعض من شرح نهج البلاغة أن المراد هنا هو نفس القوة المدركة
العاقلة... وبالتالي فالمراد هو الآلة العاملة لا عملها.
وربما يستفاد ذلك من استعارة أمير المؤمنين لفظ المرآة للإشارة إلى هذه القوة مع
وصفها بالصافية؛ وبالتأمل في ذلك نفهم أنه عليه السلام أشار إلى أن الإنسان مزود
بقوة من الله وظيفتها مساعدته على تحصيل العلوم، وإزالة الغوامض، وازاحة أستار
الجهل وظلماته، وهذه القوة بإعمالها تصبح الأمور جلية وواضحة وضوح الصورة في المرآة
الصافية.
بمعنى أن الحقائق والمعلومات تنطبع نقية جلية على صفحة الفكر بشرط صفائه. وفي ذلك
إلفات إلى أمور أولها أنه كما أن من شروط انطباع الصور في المرآة كون الأجسام في
دائرة مجالها، كذلك ليكتشف الفكر الحقائق ويدركها لا بد أن يتوجه إليها وأن تكون من
ما يقع في دائرة عمله وفي مجال رمايته، ومن جهة متممة لهذه الإلفاتة علينا توجيه
الفكر إلى نفس المطلوب لا إلى غيره بمعنى عدم استنزاف قدرة الفكر بما يكون على هامش
الحقيقة ولا يقع في طريقها ومؤدياً إليها.
وثانياً لتنعكس الصورة كما هي في صفحة المرآة لا بد من خلوها من العيوب التكوينية
أي أن تكون جيدة الصقل وإلا فإن ما تعكسه مع كونها غير مصقولة جيداً سيكون مشوهاً
في شكله وحجمه، فالفكر كذلك إذا بُنِيَ على أوهام وضلالات جعلت ثوابت فإنها ستكون
هي المشكِّلة لما ينطبع على صفحة الفكر، وعندها باختصار فالمرتسم بعد أعمال الفكر
لن يكون إلا مسخ الحقيقة لا نفسها، مسخته الأوهام والضلالات والعقائد الباطلة
والخرافات.
وثالثاً لا بد لوضوح الصورة في المرآة من نظافتها من الغبار والأوساخ وغيرها مما
يشكل مشوشات ومزاحمات تمنع ظهور الصورة واضحة جلية، فما لم يتم عزل الهوى وضوضاء
الآراء فإنّ طبقة من الغبار وأمثاله ستتشكل على صفحة الفكر. والمرتسم حينها لن يكون
واضحاً لوجود المشوشات وبالتالي فإن ما تعكسه مرآة الفكر في أحسن الأحوال سيكون شبح
الحقيقة وليس الحقيقة.
والحمد لله رب العالمين
1- نهج البلاغة 4/3.