ومما تعثر عليه شبكة صيدنا التي ألقيناها في لجة نهج البلاغة هذه اللؤلؤة من لآليء
قصار الحكم لأمير المؤمنين وهي قوله عليه السلام:
"الوفاء توأم الصدق ولا أعلم جُنَّة أوقى منه وما يغدر من علم كيف المرجع"(1) يشير أمير المؤمنين إن فضيلتي الوفاء الصدق متلازمتان كتلازم التوأمين في رحم الأم
وبعده، فالوفاء الذي هو مراعاة العهود ولزومها والبقاء عليها وعدم التنصل منها،
والصدق الذي هو لزوم مطابقة الأقوال للواقع، فامهما الخلق الكريم وقيل إنهما
داخلتان تحت فضيلة العفة، وهما متشابهان تشابه التوأم لأن الوفاء صدق في العهد
والصدق وفاء في الإخبار. ويتشابهان في كون كل منهما ملكة نفسانية وهما متقارنان
وجوداً وتحققاً فلا يفترق الصدق عن الوفاء ولا الوفاء عن الصدق. كما أن أضدادهما
وهما الغدر والكذب توأمان يجتمعان تحت أم من أمهات الرذائل وهي رذيلة الفجور.
وكون الوفاء وكذلك الصدق جنة يستتر بهما في الآخرة من عذاب الله وفي الدنيا من السب
والعار والإتصاف بما يعد من أقبح العيوب وأبشعها وأفظعها وهو الغدر والخيانة والكذب
التي تقبح وجه الإنسان بل تكشف عن سوء ما تنطوي عليه نفسه.
ويكشف أمير المؤمنين في آخر هذه الحكمة عن سر التلبس بضدّ الوفاء وهو الغدر؛ وخلل
يرجع إلى علاقة الإنسان بيوم القيامة وتصديقه ويقينه بوجود ذاك اليوم وكونه يوماً
للحساب المترتب عليه بعد المساءلة الثواب أو العقاب فإن من يعلم أنه سيرجع بعد
الموت ويوقف ليحاسب على ما اقترفت يداه وجنته، والذي يعلم كيف سيكون حاله وحال
الخلائق يومها ومستوى المدّاقة الإلهية في الحساب وأن موقفه يومها سيكون أمام وبين
يدي من لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات والأرض، وهو مقلّد كتاباً لا يغادر صغيرة
ولا كبيرة إلا أحصاها. من يعلم كل ذلك بل إن من يظن ذلك لا يغدر ولا يخون ولا يكذب،
عصمنا الله وإياكم منها جميعاً.
(1) نهج البلاغة 1/92.