من أصداف بحر النهج اللجّيِّ قولُ أمير المؤمنين عليه السلام : "ما المُبتلى
الذي قد اشتد به البلاء، أحقُّ بالدعاء من المُعافى الذي لا يَأمنُ البلاء"(1).
لنحاول ولوج مضامينها علَّنا نُوفق للعثور على بعض لآلئها، فقد قال الشراح للنهج
أنه عليه السلام نبَّه إلى أن الدعاء شعار العبودية في كل حال، فإن العبد محتاج إلى
مولاه ولا يقدر على شيء بدون أمره ورضاه، فلا يغترّ بالسلامة والراحة ويغفل عن
الدعاء.
وذلك لوجوه منها:
1 ـ لأن المُعافى في معرض الإبتلاء كل حين ولا فرق بينه وبين المُبتلى من جهة
الحاجة إلى الدعاء. حيث إن الدنيا شديدة التقلب بأهلها، وضعف الإنسان وفقره
واحتياجه أمور من ذاتياته، وهي جلاَّبة البلاء ومادته الرئيسة، فلا ضامن للإنسان من
البلاءات والمصائب من نفسه بل عليه اللجوء إلى القوي القادر الغني على الإطلاق
والذي لا حدّ لرحمته وحنانه وعطفه وعنايته ويكون ذلك بالدعاء.
2 ـ لأن المُعافى في الظاهر والصورة والحسّ هو في الواقع والباطن والمعنى مُبتلى،
حيث إنه حبيس هذه الدنيا التي هي نفسها دار البلاء وساكنها ونازلها من أهل البلاء
حقيقة لا مجازاً وادعاءاً حتى لو سكن القصور، وَلبِسَ الحرير، وتزوج الحور، وخطرُ
بعض البلاءات في هذه الدنيا هو كونها مرفوقة أحياناً بنعمٍ ظاهرية توجب الغفلة عن
البلاءات الباطنية، فقد يتنعم الإنسان حِسّاً لكنه مُبتلى في البُعد المعنوي، ومن
شواهد ذلك ما جاء في الحديث: "ما ضُرب العبد بعقوبة أشد من قسوة القلب".
3 ـ إن كلاً من المُعافى والمُبتلى مستويان في الحاجة إلى الدعاء، فأما المُبتلى
فلحاجته للخلاص من بلائه، وأما المعافى فلأجل بقاء عافيته، وليأمن من لحوق البلاء،
وفيه تنبيه لأهل العافية ليلتفتوا ليس فقط إلى الدعاء وإنما أيضاً إلى الشكر عليها.
(1) نهج البلاغة، 4 : 73/ح 302.