ومما كان من قِصَار حِكَم الأمير عليه السلام قوله: "... ولا شفيع أنجح من
التوبة"1.
من الواضح أن استعمال لفظ الشفيع بالتوبة مجاز ومن باب الإستعارة، وقد جاء عن بعض
شرّاح النهج: "ووجه المناسبة أن الشفيع كما يُقصد ليكون وسيلةً إلى استسماح
الجريمة كذلك التوبة عن المعصية تُقصد لتكون وسيلة إلى سقوط الجريمة وعدم لحوق
العقاب عليها، ويكاد حسن هذا التشبيه يلحق هذا المجاز بالحقيقة حتى تكون التوبة من
جملة أشخاص الشفعاء"2 ومن جهة ثانية فقد ذكر للنجح معانٍ ثلاثة، الظفر، والصواب،
والسرعة.
ومما يلفت في بلاغة هذه الحكمة وجزالة لفظها رغم شدة اختصارها أننا على أي معنى من
هذه المعاني حملنا لفظ النجح كانت الفائدة، فعلى معنى الظفر تكون التوبة أظفر شفيع
بحصول المأمول من غيرها من الشفعاء، فهي مقبولة ولا ترد شفاعتها إذا تمت بشروطها.
وأما على كونها بمعنى السرعة فمن الواضح أن التوبة أسرع وسيلة للنجاة من العقوبة
إذا لا تتوقف إلا على ولوج العبد لها مع استعداده لإيجاد شرائطها، وأيضاً لأن
مبدأها ومبدأ عملها هو الدنيا فيما قد يكون غيرها مؤجلاً إلى ما بعد الموت، فضلاً
عن كونها تشكل حالة مساعدة للشفعاء لتقبل شفاعتهم إذ إنها تقوي حجتهم عنده تعالى
ليرضى قول الشفيع وبالتالي شفاعته.
وعلى كونها بمعنى الصواب فذلك لأن المقصود بالتوبة هو التوجه إلى رحمة الله تعالى
وانتقال التائب من تحت شديد العقاب والجبار القهار ليستظل بالغفارية الإلهية التي
يفضي إليها ممر التواب الرحيم.
فالتوبة إن لم تكن ممراً إلزامياً فلا أقل من القول إن التوبة أصوب للرحمة الإلهية
إذ إنها مفاضة من ينبوع رحمته تعالى إذ قال عزَّ وجلَّ:
﴿وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ
كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا
بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾3.
وأما كون التوبة أنجح الشفعاء فقد يقال أولاً إن شفاعة الشفعاء مؤجلة إلى القيامة
وهي مانعة لحصول ما تقتضيه الذنوب وهو العقوبة، ولكن التوبة تؤدي إلى محو الذنوب من
صحائف الأعمال بل تنسي الشهود والكَتَبَة هذه الذنوب بأمره تعالى.
فضلاً عن أنه بدل أن تكون شفاعة الشفعاء لرفع العقوبة أو دفعها فلتكن لرفع الدرجة
وزيادة الأجر والثواب.
وأخيراً فكأن الإمام عليه السلام ينبهنا إلى ضرورة المبادرة للتوبة والإسراع فيها
وعدم التأجيل والتسويف، وعلينا وكلنا أصحاب ذنوب أن نبادر إلى التوبة ونحن في مهلة
الحياة قبل مجيء الآجال وخيبة الآمال.
1- نهج البلاغة 4/87.
2- شرح المئة كلمة، البحراني،م ص199.
3- سورة الأنعام، الآية: 54.