من جميل بل رائع الحكم لأمير الحكمة والبيان علي عليه السلام قوله: "مَنْ لاَنَ
عُودُه كَثُفَتْ أَغْصَانُهُ"(1).
في شيء من معنى هذه الحكمة يمكن القول: صحيحٌ أن العودَ يُطلق على ساق الشجر حقيقة
وعلى ما يشابهه في جهة ما مجازاً، كما أطلقه ها هنا أمير المؤمنين عليه السلام على
الإنسان، واللِّين يُطلق حقيقة على ما يقبل اللِّين والإنحناء والإنغماز حِسّاً،
ويُطلق كذلك على الصفات النفسية التي تجعل الإنسان سهل المعاملة والمعاشرة كالتواضع
مثلاً وما يشابهه من كريم الأخلاق.
وعليه فإننا نستطيع أن نستفيد من هذه الحكمة وجوهاً منها:
1 ـ إن من يمتلك صفاتٍ أخلاقيةً ساميةً كالتواضع والرحمة للناس فإن النفوس تنشد
إليه وتتصل به اتصال الأغصان والأوراق بالشجرة وهذا يعني أن من جملة وسائل الجذب
للناس هذه الصفات، وبالتالي فالحكمة تجري على مجرى قوله تعالى:
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ
مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ
حَوْلِكَ﴾ (2).
فإن كان اللِّين في الغصون والأعواد مَنْشَؤُهُ الرطوبة فيها؛ فإن منشأ لين الإنسان
هو ماء الرحمة الإلهية.
ولعله لذلك كانت في قبال اللِّين في طباع الناس الغلظة في القلب المنعكسة على
الظاهر، كما أن العود والغصن إذا جفت رطوبته صار اسمه عصا، لعله لعصيانه على
اللِّين والإنغماز.
2 ـ إنَّ من كانت المعاملة معه سهلة ومأمونة والذي يكون بكريم خلائقه قد سلَّف
الناس مواقف فإنه عندما يحتاج الناس سيجدهم حوله أعواناً كثيفين ككثافة أغصان
الشجرة.
3 ـ وربما نستفيد من الحكمة معنى له علاقة بالجوانب المتعلقة بتهذيب النفس وتكميلها؛
فاللين هنا قد يكون إشارة إما إلى أن الإنسان اللِّين صاحب الأخلاق الكريمة
كالتواضع مثلاً أكثر استعداداً وقابلية لأنها صفات تجعله مؤهلاً للإستفادة من
التربية والتزكية وإنفعاله بها فهذه الخلال تسرِّع نموّ المعارف والأخلاق ومن أجل
ذلك كانت الإشارة إلى أن يُقبل الإنسان على التعلم والتزكية ويُقبل المربوّن على
التربية في حداثة السن لطراوة العود حيث لا تكون المزاحمات ولا الشواغل قد ازدحمت
وكذلك لا تكون العادات السيئة قد تأصلت واشتدت.
والحمد لله رب العالمين
(1) نهج البلاغة.
(2) سورة آل عمران، الآية: 159.