ومِنْ مَعين الحِكْمَة مَصدراً ومولداً، وبستانها الفواح بعطرها والأريج جاء عن
الإمام علي عليه السلام: (إذا تمَّ العقل نقص الكلام)(1)
يمكن لنا بالإستنارة بأنوار هذه الحكمة أن نستكشف جملة من الأمور:
1- منها أنها تشتمل على قضيتين، واحدة بمنطوقها، والثانية بمفهومها، أما القضية
التي يفيدها منطوق هذه الحكمة، أن تمام العقل متلازم ومتوائم مع قلة الكلام، وذلك
لأن تامَّ العقل لا يحتاج لأجل إيصال مراده للآخرين وافهامهم مطلوباته إلى كثرة
الكلام، لأنَّ تمام العقل لا ينفك عن الحكمة، والحكيم يعطي كلّ أمرٍ ألمقدار الذي
يحتاجه، فإذا تأتى الغرض من الإختصار فلا يلجأ إلى الإطالة، وأما القضية المفهومية
فهي أن كثرة الكلام تدل على نقص العقل.
2- ثمة إشارة في هذه الحكمة إلى ان ما يصدر عن ألسنة الناس ليطرق أسماعنا غالباً ما
يكون مخالفاً للعقل ومجانباً للحكمة.
3- إن تمام العقل معناه قوته بل كمال قوته، وحقيقة ذلك هو هيمنة العقل على مملكة
النفس، بحيث يبسط سلطانه على الظاهر كما على الباطن، وعلى الجارحة كما على الجانحة،
ولهذه السلطنة ظهور على قوى النفس، وهو انضباطها على ضوء أحكام العقل وتماهيها بل
انصياعها لأوامره وإرشاداته، فلا تتحرك بما هو من وظائفها من الأعمال إلا بعد
العودة إليه، إذ يقوم العقل بعمليةِ دراسة وتمحيصِ وتدبّر هذه الأعمال ليحدد الحسن
من القبيح، والصالح من الفاسد، ومن هذه القوى القوة المتخيّلة التي منها ينبع
الكلام ليجري به اللسان، وكلما كان العقل أتمّ كانت النفوس أكمل، وكانت هذه
المتخيلة أشدّ إنضباطاً وأقلّ تفلّتاً، وعندما تكون كذلك من حيث انقيادها للعقل فمن
البديهي ألا يصدر عن اللسان من الكلام إلا ما خضع لتثبت العقل وتدبره. ومن البديهي
كذلك أن الكلام سيكون أقل صدوراً وأقل حدوثاً وأقل وجوداً.
(1) نهج البلاغة، (قصار الحكم)