ومن أوجز الحِكم التي أوردها الشريف الرضي في نهج البلاغة منسوبة إلى الإمام علي
عليه السلام الحكمة القائلة: "بالبِّر يُسْتَعبدُ الحُّر" .
من الواضح أن معنى البِّر هو الإحسان, والحُّر هو الذي خَلُصَ من قيود العبودية ومن
وثَاقِ الرِّق. والمعنى الأولي للحكمة هو أنَّ الإحسان إلى الحّر يجعله خاضعاً
ومطيعاً بل منقاداً إلى المُحسن إليه، وذلك جرياً على الحكمة القائلة: الإنسان عبد
الإحسان, وبالتالي فإن الإحسان لا يَستعبد فقط الفئة العامة من الناس بل حتى ذوي
النفوس الحّرة.
ووجه تخصيص الحِكمة بالحّر مع أنها عامة كما أسلفنا, ذلك أن الحّر بطبعه يأنف من
الخضوع والإنقياد لما له من شَبهٍ بالإسترقاق والإستعباد، فكأنّ الإمام أراد القول
أنَّ البّر يزيل حالة التحسس عند الأحرار من كل ما ظاهره سلبهم حريتهم.
ومن وجوه التخصيص بالحّر وهو من مصاديق الإسترقاق، هو أنه بالإحسان إلى الحّر فإن
نفسه الحرة الفاضلة تأبى عليه إلا أن يقرَّ بالجميل ويعترف بالإحسان إلى من أحسن
إليه وأمام الناس لأنه صدر من المُحسن لا بطلب للمجازاة، فأقل ما يتصور من خضوعه هو
أنه لا شعورياً أخدم لسانه وحُسن بيانه لإظهار فضيلة البّر والإحسان عند المتفضل
عليه.
ومن الممكن أن يكون في الحكمة إشارة إلى ما هو أعمق مما ذكر وهو أن أصحاب النفوس
التي تشتمل بسرّها على فضيلة عظيمة وهي الحرية بمعنى المتحررة من الميول إلى
المحرمات بل حتى المشتهيات, هذه النفوس لا تحتاج لتأتي إلى الله تعالى ساعية على
قدم العبودية مقرّة له بالربوبية والألوهية إلا إلى التفاتها إلى فضل الله عليها.
وبمعنى آخر إن هؤلاء إذا أراد الله لهم الهداية إلى صراط العبودية يكفيهم منه
الإحسان مهما كان. وعليه فيكون في الحكمة ـ إضافة إلى الإشارة إلى فضيلة الحرية
والأحرار والتنويه بهم كذلك يكون فيها تعريض بغيرهم ممن لا يكفيه توالي نِعم الله
عليه ليسلك مسلك العبيد بل يحتاج إلى العقوبة والتأديب.