من الأمور التي يكاد لا يخلو منها إنسان في مجال العلاقات الاجتماعية أن يصدر من
بعضنا ما يؤذي البعض الآخر وما يسيء إليه والذي قد يصل أحيانا حدا شديد الإيلام
ويحق تسميته جناية بل جريمة ولذا فان من جملة الأمور المساعدة على إزالة آثار الأذى
والإساءة وحتى الجناية الاعتذار الذي ربما يكون وسيلة أنتجتها ضرورات الاجتماع
الإنساني.
وعن الاعتذار ثمة حكم كثيرة ومن هذه الحكم ما جاء من قصارها في نهج البلاغة عن
الإمام علي عليه السلام: "الاعتذار تذكير بالذنب" وفي المعنى يقال إن
الاعتذار طلب العذر من شخص نعتقد أننا آذيناه واسانا إليه وهو مأخوذ من قولهم: "اعتذرت
المنازل إذا درست" فكأن المعتذر يرى بما صدر منه تجاه الآخر من إيذاء وجناية أنه قد
ترك أثراً، فالاعتذار يطلب منه أن يزيل ذلك الأثر من نفس المجني عليه.
والمقصود من الحكمة انه إن كان الهدف من العذر محو اثر الخطيئة والجريمة من الذكر
فان الاعتذار يؤدي إلى عكس ذلك.
فهل أن الإمام علي عليه السلام يقصد بهذه الحكمة أن لا نعتذر لمن آذيناه أو أخطأنا
بحقه؟ من الواضح انه ليس هذا مقصود الإمام ولنا أن نحاول استكشاف قصده عليه السلام
من خلال بعض الاحتمالات الجائزة بحق أمير البيان والحكمة.
الاحتمال الأول: إن تأخر اعتذار الجاني عن وقت الجرم حتى كاد ينسى وقد ظهر
زوال اثر ذلك من نفس المجني عليه من خلال معاشرته فان الاعتذار حينها لا محل له
لحصول المقصود منه بدونه وما سيحصل حينها هو تذكير المجني عليه بعد التسامح من قبله
بالذنب والجرم.
الاحتمال الثاني: أن يكون المقصود هو انه أحيانا قد يصدر من شخص ما تجاه آخر
ما يمكن أن يكون مؤذيا وقد لا يكون الشخص التفت إلى ذلك، أو هو التفت لكن الحضور لم
يلتفت فآثر ذلك الشخص عدم الوقوف عندها لئلا يلتفت الحضور فالاعتذار حينها أمام
الحضور هو إلفات للحضور إلى الذنب وتذكير به وعليه فان كان الاعتذار واجبا فليكن في
حالة الخلوة لا أمام الملأ وفي المحافل العامة.
الاحتمال الثالث: أن يكون الإمام ناظرا في هذه الحكمة إلى حالة إعادة
الاعتذار وتكراره فكأنه يريد القول ان إعادة الاعتذار مستلزمة لتذكير المجني عليه
بما صدر في حقه ولذا فعلى المعتذر أن لا يزيد في الاعتذار على المرة الواحدة وعليه
الاكتفاء بها لئلا يؤدي ذلك إلى استثارة غضبه وإيقاظ أحقاده.
وفي الاحتمالات: ان الامام علي عليه السلام يقصد ان يقول لمن يخطئ ان عليه
ان يجتهد في جعل اعتذاره مؤثرا في المجني عليه بحيث يقبله وتزول بسببه اثار الذنب
والجناية حتى لا يحتاج الى اعتذار اخر فان الاعتذار الاخر قد تكون نتيجته عكس
المأمول فتؤدي الى التذكير بالجرم بدل محو الاثر.. والله العالم بمراده عليه السلام.