باسمه تعالى
مقدمة:
ما العمل في شهر محرّم:
في كل محرّم من كل سنة تحدث تغييرات في مظهرنا فنلبس السواد، وفي عاداتنا فنراود
مجالس العزاء الحسين(عليه السلام)، وفي أمور أخرى لها علاقة بالشكل والظاهر فهل لنا
أن نسأل أنفسنا هل كان من أهداف الحسين(عليه السلام) أن نتغير ولنتغير؟ تعال نسأل
السؤال التالي:
ماذا علينا أن نعمله في عشرة محرم الحرام؟
سؤال قد يجده البعض ساذجاً لبداهة الجواب عليه، حيث نغترف للإجابة على هذا
السؤال مما اعتدناه من ممارسات للشعائر الحسينية، من إقامة مجالس العزاء والحضور
فيها، وإظهار الحزن والمواساة لأهل البيت النبوي، من بكاء ولبس للسواد واللطم وغير
ذلك... إلا أن المقصود بهذا السؤال، أو بعبارة أصح هذا التساؤل ليس هذه هي الإجابة
الواضحة البداهة عليه.
وإنما التساؤل هو عن الأمور التي تشكل خلفية وأبعاداً لهذه الشعائر وأيضاً التي
يفترض أن تكون مرافقة لها، لتكون لها عمقاً، بل روحاً تخرجها عن حالة كونها طقوساً
جامدة جافة.
ويمكن لنا أن نذكر من ما يمكن أن نعمله ليعطي الممارسات الشعائرية روحاً وحياة ما
يلي:
1- الارتقاء من البكاء إلى التألم:
ذلك لأن ما حصل في كربلاء كان مؤلماً لآل البيت وللنبي(صلى الله عليه وآله)،
وإنما ذرفت الدموع للألم الذي نال من قلب النبي وعلي وفاطمة والآل (عليهم السلام)،
وهذا ما عبر عنه الإمام علي الرضا(عليه السلام) في قوله:"....إن يوم الحسين أقرح
جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذل عزيزنا، بأرض كرب وبلاء، أورثتنا الكرب والبلاء، إلى
يوم الإنقضاء، فعلى مثل الحسين فليبكِ الباكون، فإن البكاء يحط الذنوب العظام"[1].
ولذا فإن المألوم المتأذي لا يبكي فقط بل تهيمن عليه آثار الألم والأذى، وتظهر في
شكله ومظهره وسحنته ومنطقه وممارسته لحياته فهذا يعقوب كما روى لنا الكتاب العزيز:
﴿...وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾.[2]
وهذا الإمام موسى بن جعفر الكاظم(عليهما السلام) كما يصفه ابنه الإمام علي بن موسى
الرضا (عليه السلام) إذ يقول: "كان أبي(صلوات الله عليه) إذا دخل شهر المحرم لا يرى
ضاحكاً،وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان
ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قتل فيه الحسين(صلوات
الله عليه)".[3]
فإن الإنسان قد يبكي تعاطفاً مع المصاب والمحزون، وقد يرتقي في مواساته إلى درجة
مشاركته آلامه فيكون المصاب مصاباً له والأذى أذى له والألم ألماً له، وقد يرتقي في
هذا الشعور إلى مقامات أرفع فكأن العطش يكوي كبده، والسهام تقع في جسده، والذي يحزُّ
هو نحره.
2- المجيء إلى المجالس طالبين للعلم:
فإن مجالس العزاء الحسيني التي تقام في شتى أرجاء الأرض يفترض أن تكون بالنسبة
إلينا كأنها مدرسة فتحت أبوابها لنا وشرعتها لكافة القاصدين ينهلون من علوم أهل
البيت(عليهم السلام) ما يلقى في هذه المجالس التي تشكل صفوفاً، ينهلون فقهاً،
وتاريخاً وعقيدة، وأخلاقاً...
فكأن الوارد إلى هذه المجالس نحلة تأخذ من زهراتها(المحاضرات) رحيقاً يشكل زادً
يغذو عقولها وأرواحها.
ولو لم يكن في هذه المجالس سوى سماع الأحاديث المنقولة عن أهل البيت(عليهم السلام)
لكفى فائدة تنير النقوس، وتنير للنفوس دروبها في الحياة.
فهم نور وحديثهم نور يضيء في ظلمات وعتمات النفوس، والدنيا. أليس كما جاء عنهم في
الزيارة: "كلامكم نور"[4]
3- السعي للتغيُّر:
إن من أهداف الإمام الحسين (عليه السلام) كما جاء عنه الإصلاح في الأمة بحيث
قال: "وأني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح
في أمة جدي رسول الله(صلى الله عليه وآله) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر".[5]
فالحسين (عليه السلام) يريد أن يغيّر الأمة جماعة وأفراداً لينقلها من الفساد إلى
الصلاح، ولقد أتاح دمه الشريف وشهادته المقدسة لنا أن نقيم له مجالس العزاء، ولكن
في الحقيقة كأنه (عليه السلام) أراد لنا أن نستفيد من هذه المجالس بأن نصلح على
يديه وعلى وهج دمه وحرارة المصاب التي تخترق القلوب والتي لن تبرد أبداً لتحدث فينا
تغيّراً أساسياً ينقل أقدامنا من سبل الضلال والإنحراف والضياع إلى صراط الحق وسبيل
الهدى؛ فعلينا القدوم إلى مجالس الحسين (ع) كأننا نستمع إليه مباشرة متيحين له فرصة
مساعدتنا على أن نحدث إنقلاباً على واقعنا، ولذا كانت الدمعة عليه تحط الذنوب
العظام لأن أثر الذنوب موجب لقسوة القلوب والقسوة في القلوب أشد موانع قبول الحق
والإنصياع له والسلوك بعد ذلك في طرق الصلاح.
ففي الرواية:
عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام): "ما جفت الدموع إلا لقسوة القلوب، وما قست
القلوب إلا لكثرة الذنوب"[6].
ولذلك نفهم لماذا كان الحث على البكاء على مصاب سيد الشهداء(عليه السلام) الذي ربما
يكون مقدمة للصلاح، ومفتاحاً للقلوب التي أغلقت أبواب وعيها آثار الذنوب.
﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾[7]
وأجدر بنا أن نغتنم فرصة عاشوراء فندخل إلى رحمة الله في باب التوبة من مدرسة
التوبة عاشوراء الحسين (ع).
لنقف مع المظلومين:
ثمة أمور أخرى غير ما ذكرنا مما ينبغي أن نعمله، وحق علينا أن نعمله في عشرة محرم
كأن نسجل مواقف حسينية مما يحدث حولنا وفي عالمنا كما أوصى أمير المؤمنين(عليه
السلام) ولديه الشهيدين:"كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً".[8]
فلا معنى لأن نبكي الحسين(عليه السلام) ونفتح له العزاء ونلبس السواد إذا كنا
سلبيين اتجاه المستضعفين والمظلومين، فإن كان كثير من غير المسلمين إنما يدافع عن
الحسين(عليه السلام) ويؤلف فيه المؤلفات لأنه كما يقول:"من منطلق الظلامة".
فأحرى بنا أن نكون مع كل مظلوم في وجه كل ظالم لندخل في فسطاط الحسين(عليه السلام)
أنصاراً وليس فقط مواسين له(عليه السلام).
خاتمة:
إن كل ما فرضته علينا شعائر عاشوراء في الظاهر فغيرت لون الثياب وأوجدت عادة البكاء،
وارتياد مجالس العزاء، واللطم، يجب أن نفهمها أيضاً خارج منظومة الثواب والأجر،
فحسب لنتغير فنزداد علماً يغذي أفكارنا، ونتغير فتصلح نفوسنا من خلال إصلاح قلوبنا
التي يفتحها على قبول التغيير الرقة الآتية من البكاء على مصاب سيد الشهداء(عليه
السلام).
وفقنا الله وإياكم لنعطي الحسين(عليه السلام) فرصة ليصنعنا على عين الله في مدرسته
القدسية.
والحمد لله رب العالمين.
[1] الأمالي، الشيخ الصدوق،ص190-191.
[2] سورة يوسف، مقطع من الآية 84.
[3] الأمالي، الشيخ الصدوق،ص:191.
[4] بحار الأنوار، العلامة المجلسي،ج99.
[5] بحار الأنوار، العلامة المجلسي،ج44.
[6] وسائل الشيعة(آل البيت)-الحر العاملي-ج16.
[7] سورة المطففين، الآية:14.
[8] ميزان الحكمة، محمد الريشهري،ج2،ص1778.