قال تعالى في سورة الإسراء:
﴿لاَّتَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهًاآخَرَفَتَقْعُدَ
مَذْمُومًا مَّخْذُول﴾.[1]
مقدمة: أفرغ حياتك من غير الله:
إن الآية الآنفة الذكر تدعو إلى توحيد الله تعالى والتوحيد هو أصل كل الأمور الأخرى
المترتبة على الإيمان بالله تعالى، من أقوال وأعمال حسنة وبناءة وإيجابية، سواء
كانت من قبيل الأنشطة الاجتماعية، الفردية بل حتى ما تعلق منها بالأبعاد النفسية
والقلبية من عواطف ومشاعر وحتى العقائد؛ فالآية لا تختص بتوحيد الله في العبادة إذ
لم يكن نصها:"ولا تعبد مع الله إلهاً آخر"؛ بل جاء بقوله عز من قائل:
﴿لاَّتَجْعَل
مَعَ اللّهِ إِلَهًاآخَرَفَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُول﴾.
فلفظ لا تجعل أشمل وأعم من لفظ لا تعبد، فالمعنى فيها لا تجعل مع الله آلهة أخرى لا
في ما تعتقده بقلبك، ولا فيما تقوم به من أعمال ولا فيما تتوجه إليه بالدعاء ولا
فيما تعبده وتتقرب إليه بالطاعات. ولا فيما تحكمه في مشاعرك وعواطفك، فالمطلوب هو
أن يفرغ الإنسان عقله وقلبه، وجوارحه وكل وجوده أي أن يفرغ نفسه من غير الله تعالى
ليكمل بذلك توحيده، وهذا يعني أن الإنسان قد يشرك بالله عقيدة فيضم إليه تعالى
إلهاً وربما يشرك مع الله غيره في التدبير فيتخذ معه أرباباً وقد يغلو فيتخذ
أرباباً من دونه ويجعل يده قاصرة عن نفع عياله وتدبير شؤونهم، وربما يشرك بالله
عبادة سواء على نحو الإستقلال أو كما نقل عنهم المولى:
﴿لِيُقَرِّبُونَا إِلَى
اللَّه ِزُلْفَى﴾.[2] ومنها إشراك غيره تعالى في الطاعة.
آثار الشرك:
نحن لن نبحث هنا عن آثار الشرك مطلقاً بل في حدود ما ذكرته الآية موضع الكلام؛ حيث
ذكرتها إجمالاً فقالت:
﴿فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مخذول﴾.
واستعمال كلمة القعود تدل على الضعف والعجز أو كما عن بعض الصيرورة أي فتصير
مذموماً مخذولاً وعلى كل حال فمن هذه العبارة نستفيد أن للشرك ثلاثة آثار سيئة جداً
تحيق بالإنسان في عاجله كما في آجله وهذه الآثار هي:
1) إن الشرك يفضي إلى ضعف الإنسان وعجزه وذلته: ربما لأنه يمنعه من الارتباط بالله
مصدر القوة والقدرة والعزة
﴿إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعً﴾.[3] فالتوجه إلى
غيره تعالى أولاً هو حرمان للنفس من التوجه إلى الله فضلاً عن كونه لجوءاً إلى ضعيف
لا يقل ضعفاً وفقراً وعجزاً عن الإنسان، وعلى أن عبادة الله عزٌّ والإرتباط به عز،
وطاعته عز: "إلهي كفى بي عزاً أن أكون لك عبداً وكفى بي فخراً أن تكون لي رباً".[4]
2) الشرك موجب للذم واللوم: حيث إن الشرك ينحرف بالإنسان والإنسانية، فبالشرك يلام
الإنسان لانحرافه ومعه العقل الذي يرشده ٍإلى التوحيد، وبالتالي فإنه حينها يستحق
الذم؛ من هنا كان الشرك تضييعاً لنعمة من نعم الله الكبرى وهي العقل وكذلك نسبة
النعم الإلهية إلى غيره وكلاهما كفر بالنعم الإلهية.
3) الشرك سبب الخذلان:بمعنى أن الله تعالى إذا رأى العبد متوجهاً إلى غيره غير آبه
به أو على الأقل يشرك غيره في ما يفترض أن لا يتوجه به إلا إليه خصوصاً في العبادة،
فقد يهمل الله هكذا إنسان ويوكله إلى الأشياء والأمور التي يعبدها، فيمنع عنه
رعايته، ولا يقوم بحمايته لأن الله لا يحمي مثل هؤلاء؛ فيكون تعالى بذلك خذله؛
وربما يكون المقصود أن مايلجأ إليه العبد من المعبودات المختلفة المصطنعة ليست آلهة
حقيقية وليست أرباباً حقيقة ولذا فهي أضعف من أن تحمي نفسها فكيف تحمي غيرها؛ وهي
التي تحتاج إلى من يحميها ويرعاها، وعليه فبالطبع عندما يحتاج العبد لحمايتها
ورعايتها سوف تخذله؛ كما قد يكون تعالى عبر عن ذلك في سورة العنكبوت بقوله:
﴿مَثَلُ
الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ
اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ
كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾.[5]
الوثنية الحديثة:
وإذا عدنا إلى عصرنا الحالي يمكن أن نقول:
هناك حقيقة هي أن الإنسان في مسيرته صنع الكثير من الآلهة وحكّمها في حياته وتعبَّد
لها، ففي مراحل من حياة الإنسان كانت الأوثان المصنوعة من أحجار وأخشاب وغيرها، وفي
مراحل عبد النجوم والكواكب والنيران بل حتى الحيوانات وغير ذلك، حيث نجد سلسلة من
الآلهة المصطنعة والمخترعة كان لها الأثر الكبير في إعاقة الإنسان في حركته وفكره
عن التقدم والتطور ذلك لأنه تعامل معها كآلهة؛ وكذلك نجد في مسيرة البشرية أموراً
أخرى لم يؤلهها الإنسان صراحة وإنما رفع مقامها ودرجة اعتبارها إلى درجة صارت تنافس
آلهة الإغريق والرومان، والفراعنة وآلهة العرب، من هذه الأمور النسب والانتماء
القبلي والعشائري، ومنها اللون والعرق، ومنها الطبقة الاقتصادية أو الاجتماعية
ومنها الانتماء الجغرافي للوطن وغيره، ومنها الانتماء المهني؛ فهذه الأمور تحكمت
بحركة الإنسان وبعقله ومشاعره، وعلى أساسها بنيت الولاءات والعداوات، وخيضت الحروب
وانتهكت الحرمات؛ ونحن لا نريد أن ننكر أن للكثير من هذه الأمور قيمة وواقعاً إلا
أن المشكلة أن تتحول هذه الأمور النسبية في التعاطي معها إلى مطلقات، ومقدسات،
تنازع الله تعالى في ذلك. فالإنسان يحتاج إلى المطلق في حياته ويحتاج إلى الارتباط
به وإلا سيكون ضائعاً تائهاً وحركته عشوائية ينفعل بأدنى عامل من حوله، وهذا المطلق
الذي يحتاج الإنسان أن يرتبط به لا بد أن يكون مطلقاً حقيقياً لا أن يكون مخترعاً
ووهمياً؛ وذلك لأن ولاء الإنسان عندما يكون لمحدود ونسبي فإن هذا الولاء يقيد أفق
الإنسان ويجعل فضاء الفكر الواسع بالعلاقة مع الله مطلق العلم ومطلق القدرة ومطلق
الصفات كل الصفات يجعل ذاك الولاء للمحدود آفاق الإنسان ضيقة ومحدودة بمحدودية وضيق
ما يمحضه ولاءه؛ في حين أن توحيد الله هو أساس توسع الآفاق وأساس حركية الإنسان
ونهوضه ورفعته.
خاتمة:
وتعقيباً على ما مر آنفاً من الأمور التي غلا الإنسان بالولاء لها وتقديرها ما
يسمونه العلم الذي منحه معاصرونا من بني البشر ولاءهم، ربما لأنه شق للبشر طرق
التحكم بالطبيعة والسيطرة عليها؛ ونحن إذ لا ننكر ما للعلم من قيمة وموقع لكن نحن
نرفض أن تفتتن البشرية به مطلقاً فتجعله من الآلهة، بل الإله الأوحد الذي يتم على
أساسه رفض كل القيم والحقائق حتى تلك التي منها ما لا تمتد إليه يد العلم، إذ للعلم
أدواته التي يقيس بها كالأمتار وغيرها، وكالأمور التي تثبت برؤيتها مجهرياً؛ إلا
أنه لا بد من القول أنه لو لم يملك الإنسان وسائل قياس بعض الأمور، أو فقل وسائل
تحسس وجودها، فهل يعني ذلك أنها غير موجودة؛ فكم من أمر في عصور سابقة لم يكن يملك
الإنسان وسائل إثباته، عاد في عصور لاحقة فأثبته عندما وجد وسائل قياسه وإثباته؛
على أنه ثمة حقائق أبعد من المادة لا تقاس بأدوات مادية ومنها الحياة والروح.
وقد قال تعالى:
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلً﴾.[6]
فكل العلم الذي لدينا لا يجعل لدينا أدوات استشعار الروح التي بها الحياة:
﴿وَلَا
تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ
لَا تَشْعُرُونَ﴾.[7]
وللبحث تتمات وفقنا الله وإياكم لبحثها.
[1]سورة الإسراء - الآية - 22
[2]سورة الزمر - الآية - 3
[3]سورة يونس - الآية - 65
[4] بحار الانوار، المجلسي، ج 91، ص 92
[5]سورة العنكبوت - الآية - 41
[6]سورة الإسراء - الآية - 85
[7]سورة البقرة - الآية - 154