لقد حظيت الهجرة بأهمية خاصة في الآيات القرآنية والأحاديث الإسلامية، والمراد من
الهجرة ـ كما سنبيّن ذلك ـ هو الانتقال والحركة من نقطة إلى نقطة أُخرى لينجو
الإنسان بدينه ويحفظ عقائده ويتمكّن من القيام بوظائفه وتكاليفه الإلهية وطقوسه
الإسلامية بحرية واطمئنان، لا الهجرة من أجل المال وكسب المقام والجاه والشهرة.
إنّ الهجرة في اللغة تعني القطع والترك، قال الخليل في كتاب «العين»: الهجر
والهجران ترك ما يلزمك تعهده، ومنه اشتُقَّت هجرة المهاجرين، لأنّهم هجروا عشائرهم
فتقطّعوهم في اللّه، قال الشاعر:
وأكثـر هجـر البيـت حتـى كأنّني *** مللت وما بي من ملال ولا هجر( [1])
إذاً إطلاق لفظ «المهاجر» على الذي ينتقل من مكان إلى آخر، لأنّ هذا الشخص في
الواقع يقطع روابطه وعلاقاته مع المكان الذي انتقل منه. ثمّ إنّ المهاجرة يمكن أن
تكون لطلب المكاسب الدنيوية ونيل المكاسب المادية وزيادة المال والثروة أو ما شابه
ذلك من الأُمور المادية، فإذا ما حصل الإنسان على مراده من هجرته وانتقاله فلا ريب
أنّه يكون قد حصل على الكمال المادّي الذي توخّاه من هجرته، ولكن الهجرة في المفهوم
القرآني تختلف عن ذلك اختلافاً واضحاً، فإنّ القرآن يرى أنّ الهجرة في الواقع هي
هجرة الجسد والروح معاً، بمعنى أنّه كما أنّ الجسد يغيّر مكانه وينتقل إلى مكان
آخر، كذلك الروح تهاجر من الشرك إلى التوحيد، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن العصيان
والتمرد إلى الطاعة. تهاجر من الأجواء الضاغطة على إقامة الفرائض إلى أجواء مفتوحة
يسمح لها أن تمارس طقوسها بحرية واختيار واطمئنان.
ففي النوع الأوّل من الهجرة يقطع الجسم أواصره وروابطه المادية مع مكان خاص كان قد
ارتبط به وقامت بينهما مجموعة من العلاقات والأواصر، والحال انّ في النوع الثاني من
الهجرة ليس الجسم وحده هو الذي يقطع أواصره وروابطه، بل الروح أيضاً تقطع علاقاتها
وروابطها مع الوكر الضيق والمظلم والفضاء الموحش الذي تعيش فيه وتهاجر لغرض الحفاظ
على دينها وإيمانها، ولكي تتمكّن أن تعبد ربّها بعيداً عن الأجواء الضاغطة وتعيش في
فضاء فسيح ملؤه المعنويات والحرية العبادية وتلقي هناك رحلها بعيداً عن أعين
الظالمين والمشركين، نعم سوف نتحدّث وباختصار في نهاية البحث عمّا ورد عن الرسول
الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: «المهاجر من هجر ما حرّم اللّه عليه».(
[2])
من هذا المنطلق أولى القرآن الكريم والسنّة النبوية مسألة «الهجرة» عناية خاصة،
حتّى أنّ لفظة «الهجرة» بجميع مشتقّاتها قد وردت في القرآن الكريم 24 مرّة هي:
( هاجروا ) وردت تسع مرات.
( المهاجرين ) وردت خمس مرات.
( يهاجروا ) وردت ثلاث مرات.
( مهاجراً ) وردت مرتين.
( يهاجر ) مرة واحدة.
( هاجر ) مرة واحدة.
( هاجرن ) مرة واحدة.
( مهاجرات ) مرة واحدة.
( تهاجروا ) مرة واحدة.
وفي الغالب أنّه كلّما ذكرت كلمة «الهجرة» يتداعى إلى الذهن هجرة الرسول الأكرم(صلى
الله عليه وآله وسلم) من مكة إلى المدينة المنورة. تلك الحركة التي كانت تُعدّ
منعطفاً هاماً في تاريخ الرسالة الإسلامية عامة وتاريخ الرسول الأكرم خاصة، حيث
كانت لتلك الهجرة المباركة ثمارٌ عظيمة ونتائج بنّاءة ملؤها الخير والبركة والمنافع
على الأُمّة، ولذلك امتازت من بين مئات حوادث ووقائع صدر الإسلام بأن اعتبرت هي
مبدأ التاريخ الإسلامي.
ثمّ إنّ في الإسلام ـ بالإضافة إلى الهجرة المصطلحة ـ هجرة أُخرى وانتقال آخر
مساحته القلب وهو الهجرة من الذنوب والعصيان إلى الطاعة، بمعنى أنّ الإنسان يصمّم
أن لا يحوم حول الذنب وأن لا يتمرّد على الأوامر الإلهية أبداً. ولقد أشارت الآيات
القرآنية والأحاديث الشريفة إلى هذا النوع من الهجرة، حيث قال سبحانه: (
...فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبيلي
وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيئاتِهِمْ... ) .( [3])
ويمكن أن يقال: إنّ الآية تشير إلى المعنى الواسع للهجرة والذي يشمل ترك الذنب
والتنزّه عن التلوث بالمعاصي والرذائل النفسانية، وذلك بقرينة مقابلة قوله سبحانه:
( هاجروا ) مع قوله سبحانه: ( اخرجوا من ديارهم ) وإن كان الفخر الرازي قد فسّر
الجملتين بنحو آخر حيث قال: المراد من ( هاجروا ) الذين خرجوا من ديارهم باختيارهم
وإرادتهم، والمراد من ( اخرجوا ) الذين أُجبروا على ترك الديار والأوطان.
والذي يؤيد ما قلنا، الروايات التي وردت في خصوص هذا النوع من «الهجرة» حيث يسأل
أحد المسلمين الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) : أيّ الهجرتين أفضل؟
فأجاب(صلى الله عليه وآله وسلم) : «أن تهجر ما كره ربّك».( [4])
وفي حديث ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال: «يقول الرجل هاجرت ولم
يهاجر، إنّما المهاجرون الّذين يهجرون السّيئات ولم يأتوا بها».( [5])
وفي بعض الروايات نقل عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «لا
تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة».( [6]) فإنّ المراد من هذا النوع من الهجرة هو نقاء
الروح والنفس وتصفيتها من كلّ أنواع القذارات والرذائل مهما كانت. وذلك بواسطة
التوبة والتوجّه إلى اللّه والالتزام بمقررات الشريعة، ومن الجدير بالذكر أنّ
الاهتمام بهذا النوع من الهجرة وقبولها لا يعني بحال من الأحوال نفي الهجرة بالمعنى
المعروف والتي يترك فيها المؤمنون أوطانهم وديارهم وأهلهم و...من أجل اللّه سبحانه
وتعالى، إذ قد يتصوّر البعض إذا كان الهدف من الهجرة الجسمانية هو العروج إلى اللّه
والوصول إليه، فبالإمكان تحقيق ذلك من خلال سلوك طريق العبادة والتفكّر و التدبّر
في ذات اللّه وعظمته و...، ولكن هذا التصوّر غير صحيح، إذ المفروض أنّ الإنسان لم
يتمكّن من حفظ إيمانه ودينه ومعتقداته بصورة كاملة تحت ظروف قاهرة وأجواء
ضاغطة،ولكنّه يستطيع أن يهاجر ويترك بلاد الكفر والشرك ليضع رحله في بلاد يحكمها
الإسلام ويسمح له بإقامة شعائره الدينية بحرية واختيار، فلا شكّ انّه وفي مثل هذه
الحالة لا يكفي السلوك المعنوي والتفكير والتدبّر في تحقيق الهدف النهائي للإنسان
المؤمن.
ولقد ذكر الطريحي في «مجمع البحرين» في مادة «هجر» مجموعة من العبارات يظهر أنّه
انتقاها من الأحاديث الشريفة حيث قال: «والمهاجر من هاجر ما حرم اللّه عليه،
والمهاجر من ترك الباطل إلى الحقّ. وفي الحديث: من دخل الإسلام طوعاً فهو
مهاجر».([7])
آية الله الشيخ جعفر سبحاني
[1] . كتاب العين:3/387، مادة
هجر.
[2] . جامع الأُصول:1/ 154.
[3] . آل عمران: 195.
[4] . جامع الأُصول لابن الأثير:12/ 262.
[5] . سفينة البحار:2/ 697.
[6] . جامع الأُصول:12/ 261.
[7] . منشور جاويد:3/32، 57، 59.