يختلف مفهوم «التقية» عن مفهوم «النفاق» اختلافاً جوهرياً، فلم يكن مفهوم «التقية»
بحال من الأحوال من مقولة «النفاق»، وبالإضافة إلى الاختلاف الجوهري والماهوي
بينهما فانّهما يختلفان في الحكم (الحرمة والجواز) أيضاً.
توضيح ذلك: انّ لفظ «النفاق» في اللغة له معنى خاص[1]، وقد أطلقه القرآن ـ ولجهة
المشابهة ـ على الإنسان ذي الوجهين، ولم يكن هذا المصطلح رائجاً قبل نزول القرآن
الكريم.
يقول ابن منظور المصري في «لسان العرب»: وقد تكرر في الحديث ذكر النفاق وما تصرف
منه اسماً وفعلاً، وهو اسم إسلامي لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به، وهو الذي
يستر كفره ويظهر إيمانه، وإن كان أصله في اللغة معروفاً. [2]
وعلى هذا الأساس يكون استعمال لفظ «المنافق» في الإنسان«ذي الوجهين» استعمالاً
قرآنياً ومصطلحاً إسلامياً، لا أنّه اصطلاح عام، وانّ القرآن أطلق ذلك على طائفة من
الناس الكافرين الذين يسترون كفرهم بستار من الإيمان الظاهري حيث يقول سبحانه:
(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَاللّهُ
يعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقينَ لَكاذِبُونَ).
[3]
فمن الواضح انّ الآية تطلق لفظ «المنافقون» على تلك الطائفة التي تضمر الكفر وتظهر
الإيمان.
ومن هنا نعلم أنّ النفاق لا يطلق على كلّ حالة يختلف فيها الظاهر عن الباطن، وكلّ
حالة يظهر من صاحبها أنّه يلعب دورين ويكون ذا وجهين، بل يراد منها حالة واحدة فقط
وهي فيما إذا أضمر الكفر وأظهر الإيمان، فحينئذ يقال له منافق.
ونحن إذا رجعنا إلى مصطلح «التقية» نجد الأمر على العكس من ذلك تماماً فإنّ الإنسان
المتّقي يختلف موقفه اختلافاً جوهرياً عن المنافق، حيث يظهر الكفر ويضمر في داخله
الإيمان ، يقول سبحانه واصفاً مؤمن آل فرعون:
(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَونَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ...) . [4]
فهذه الآية من الآيات التي تتعلّق بموضوع التقية والتي تظهر بجلاء أنّ التقية تقع
في نقطة مقابلة للنفاق، وأنّ بينهما فرقاً جوهرياً وأساسياً، إذ الإنسان المتقّي
يكتم إيمانه ويظهر الكفر لأسباب وعوامل ضغط خارجية تقتضي ذلك،وأمّا المنافق فيعيش
على العكس منه تماماً إذ يظهر إيمانه ويضمر في نفسه الكفر.
ومن هنا وعلى هذا الأساس نعرف وبوضوح أنّ مفهوم «التقية» يختلف عن مفهوم «النفاق»
في الأهداف والأغراض أيضاً، لأنّ هدف المنافق هو إفساد المجتمع وقلب النظام
الإسلامي والقضاء عليه، والحال انّ هدف الإنسان المتّقي إصلاح المجتمع أو على أقل
تقدير الحفاظ على حياته وعرضه وماله أمام تهديد وضغط العوامل الخارجية التي لا
يمكنه التخلّص منها إلاّ من خلال هذا الطريق.
ولقد أشار القرآن الكريم إلى قصة مؤمن آل فرعون وسعيه المتواصل تحت ستار التقية
للحفاظ على حياة النبي موسى (عليه السلام)، وهذا يعني أنّه كان ينسّق مع فرعون
ويظهر له الكفر لتحقيق هدف أكبر وهو الحفاظ على حياة النبي موسى ومن تبعه. ولذلك
نراه وكما ينقل لنا القرآن الكريم ذلك يخاطب فرعون وقومه بأُسلوب دبلوماسي يدلّ على
ذكائه وإيمانه العميق وهدفه السامي: (...أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ
رَبِّيَ اللّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً
فَعَلَيْهِ كِذْبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ...)
.[5]
فإذا كان المتّقي هدفه من إظهار الكفر الإصلاح والحفاظ على النفس والمال وسلامة
المؤمنين واستقرارهم وعدم التعرض لهم من قبل الطواغيت بالأذى والتعذيب; فإنّ
المنافق على عكس ذلك يظهر التنسيق مع المؤمنين والسير في ركابهم والوقوف إلى جنبهم
ظاهراً، ولكنّه يمسك بمعوله ليهدم الإسلام والمجتمع الإسلامي بطريقة خفية، ويتستّر
لتحقيق هذا الهدف المشؤوم بستار الإيمان والتقوى. [6]
آية الله الشيخ جعفر سبحاني
[1] . انظر ما نقلناه عن اللسان
في ص 178.
[2] . لسان العرب:10/359، مادة « نفق » .
[3] . المنافقون: 10.
[4] . غافر: 28.
[5] . غافر: 28.
[6] . منشور جاويد:4/21ـ 23.