إنّ السؤال يوم القيامة يكون عن أعمال العباد وانّ كلّ إنسان ينال نتيجة أعماله
التي اقترفها في الحياة الدنيا، ولكنّ هناك سؤالاً يلاحق الذهن البشري دائماً، وهو:
ما هي الأعمال التي يُسأل عنها؟ وما هي الأعمال التي لابدّ أن نجيب عنها؟
ولقد اهتمت الآيات الكريمة والروايات الشريفة بهذه المسألة اهتماماً كبيراً وأولتها
عناية خاصة، وبيّنت لنا الجواب بطريقة خاصة.
ويمكن تقسيم الآيات الواردة في هذا المجال إلى طائفتين:
الطائفة الأُولى: الآيات التي تؤكد على أنّ الإنسان يُسأل
عن عامّة أفعاله، ومن هذه الآيات المباركة:
ألف. ( ...وَلَتُسْئَلُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) . [1] ب. ( لا يُسْئَلُ
عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ). [2]
ج. ( ...ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) . [3]
د. ( يَومَئِذ يَصْدُرُ النّاسُ أَشْتاتاً ليُرَوْا أَعْمالَهُمْ ) . [4]
كذلك تدلّ على الشمول والعمومية الآيات المتعلّقة بالعقاب والثواب وجزاء الأعمال.
وأمّا الطائفة الثانية: فإنّها تدلّ على أنّ الإنسان
يُسأل عن بعض الأُمور خاصة، ومنها:
ألف. النعم الإلهية
( ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذ عَنِ النَّعيمِ ) . [5]
والسؤال هنا و إن كان عن النعم الإلهية، ولكن بالالتفات إلى أمرين: الأوّل: أنّه
ورد في الآية كلمة «النعيم» الذي يشمل جميع النعم الإلهية، والثاني: انّ جميع ما
يستفيد منه الإنسان في حياته يُعدّ من النعم الإلهية، إذاً على هذا الأساس يقع
السؤال عن جميع أفعال الإنسان وأعماله، وذلك لأنّ كلّ عمل يقوم به الإنسان يُعدّ ـ
وبنحو من الأنحاء ـ تصرّفاً في النعم الإلهية، وبالنتيجة لابدّ أن تدرج هذه الآية
في ضمن الطائفة الأُولى من الآيات التي تدلّ على عمومية وشمولية السؤال.
ب. القرآن الكريم [6]
( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ ) . [7]
ج. الشهادة
( ...سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ ) . [8]
د. القتل من دون ذنب
( وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْب قُتِلَتْ ) . [9]
هـ. الكذب والتهمة
قال سبحانه: ( ...تَاللّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ )
. [10]
و. الصدق
قال سبحانه: ( لِيَسْئَلَ الصّادِقينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَ أَعَدَّ
لِلْكافِرينَ عَذاباً أَليماً ) . [11]
وبالطبع أنّ تخصيص هذه الأُمور بالسؤال عنها لا ينافي السؤال عن عامّة الأفعال،
وانّما ذكرت تلك الأُمور لأهميتها من باب ذكر الخاص بعد العام.
ثمّ إنّ هذا التقسيم نجده أيضاً في الروايات، فهناك طائفة من الروايات تؤكد أنّ
السؤال سيكون عن جميع الأفعال والأعمال، وفي مقابلها طائفة أُخرى ترى أنّ السؤال
سيكون عن بعض الأفعال المخصوصة، ونحن نذكر نماذج من تلك الروايات:
قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «وأعمال العباد في عاجلهم نصب أعينهم في
آجلهم». [12]
وكتب (عليه السلام) إلى بعض عمّاله الذي خانه واستولى على بيت المال وذهب به إلى
الحجاز: «فكأنّك قد بلغت المدى، ودفنت تحت الثرى،وعرضت عليك أعمالك بالمحل الذي
ينادي الظالم فيه بالحسرة، ويتمنّى المضيع فيه الرجعة، ولات حين مناص». [13]
وطائفة أُخرى من الروايات تخصّص السؤال عن بعض الأُمور
منها:
1. عمر الإنسان.
2. الشباب.
3. أعضاء الإنسان.
4. الثروة التي اكتنزها، وفي أيّ شيء صرفها.
5. محبة أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) .
6. القرآن الكريم.
7. فريضة الصلاة.
8. النبوة والولاية.
وها نحن نذكر بعض النماذج من تلك الروايات التي تتعلّق بالعناوين التي ذكرناها:
ألف. روى الصدوق في «الخصال» و «الأمالي» بسنده عن موسى بن جعفر(عليه السلام) ، عن
آبائه قال: «قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) : لا تزول قدم عبد يوم
القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وشبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين
كسبه وفيما أنفقه، وعن حبّنا أهل البيت». [14]
ب. روى أبو بصير عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: سمعت أبا جعفر(عليه
السلام) يقول: «أوّل ما يحاسب به العبد الصلاة فإن قبلت قبل ما سواها». [15]
ج. روى الصفار في «بصائر الدرجات»، عن أبي شعيب الحداد، عن أبي عبد اللّه(عليه
السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) : أنا أوّل قادم على اللّه،
ثمّ يقدم عليّ كتاب اللّه، ثمّ يقدم عليّ أهل بيتي، ثمّ يقدم عليّ أُمّتي فيقفون
فيسألهم: ما فعلتم في كتابي وأهل بيت نبيّكم». [16]
د. روى القمي في تفسيره، عن جميل، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: قلت: قول
اللّه: ( ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذ عَنِ النَّعيم ) ؟ قال: «تسأل هذه الأُمّة
عمّا أنعم اللّه عليهم برسول اللّه، ثمّ بأهل بيته».
هـ. روي [17] الصدوق في «عيون أخبار الرضا»، عن الرضا(عليه السلام) أنّه قال: «قال
رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) : يا علي! إنّ أوّل ما يسأل عنه العبد بعد
موته شهادة أن لا إله إلاّ اللّه، وانّ محمّداً رسول اللّه وأنّك وليُّ المؤمنين
بما جعله اللّه وجعلته لك، فمن أقرّ بذلك وكان يعتقده صار إلى النعيم الذي لا زوال
له». [18]
النعم الدنيوية والسؤال عنها في لسان الروايات:
من البحوث المتعلّقة بالحساب يوم القيامة والتي ذكرت في الروايات بحث النعم
الإلهية الدنيوية، ويمكن تصنيف تلك الروايات إلى طوائف، هي:
1. السؤال عن جميع النعم الدنيوية، حلالها وحرامها.
قال أمير المؤمنين(عليه السلام) في هذا المجال: «فِي حَلالِها حِسابٌ
وَفي حَرامِها عِقابٌ». [19]
وقال أيضاً: «اتَّقُوا اللّهَ في عِبادِهِ وَبِلادِهِ فَإِنَّكُمْ مَسْؤُولُونَ
حَتّى عَنِ الْبِقاعِ وَالبَهائِمِ». [20]
2. يسأل عن كلّ شيء سوى ما بذل في سبيل اللّه، قال:«كلّ
نعيم مسؤول عنه يوم القيامة إلاّ ما كان في سبيل اللّه». [21]
3. أنّ الإنسان لا يُسأل عن ثلاثة أُمور:
أ. لا يسأل عن الطعام الذي أكله.
ب. والثوب الذي لبسه.
ج. والزوجة الصالحة.
روى الحلبي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «ثلاثة أشياء لا يحاسب العبد
المؤمن عليهنّ: طعام يأكله، وثوب يلبسه، وزوجة صالحة تعاونه ويحصن
فرجها». [22] ونحن إذا حللنا الروايات وفسّرناها بإمعان تتّضح لنا النكات التالية:
النكتة الأُولى: انّ الرواية الثانية واضحة
جداً، لأنّها تؤكد أنّ الإنسان لا يُسأل عن النعم التي تبذل في سبيل اللّه سبحانه،
ولا تقع تلك النعم موضوعاً للمساءلة والعقاب والمؤاخذة.
النكتة الثانية: كذلك الأمر بالنسبة إلى
الرواية الثالثة فإنّها أيضاً واضحة حيث تؤكّد أنّ بعض الأُمور لا يُسأل عنها
الإنسان يوم القيامة، وذلك لأنّ هذه الأُمور المستثناة تمثّل في الواقع اللطف
والكرم الإلهي والرحمة الإلهية والتي تتوقف عليها ضرورة الحياة.
النكتة الثالثة: وحينئذ يمكن معرفة المستثنيات
من عموم الرواية الأُولى الدالّة على شمولية الحساب لكلّ شيء، وهذا الشمول يمكن
تصوّره في أمرين:
1. السؤال عن كلّ شيء سواء أُنفق في سبيل اللّه أو أُنفق في غير سبيل اللّه.
2. ولا فرق بين العمل الصادر من المؤمن أو من غير المؤمن.
وبما أنّ هذين القسمين قد ورد، في الروايتين الثانية والثالثة، استثناؤهما من
المحاسبة والمؤاخذة والعقاب، وبالنتيجة انّ المعنى الكلّي والعام للطائفة الأُولى
يخصّص بالمستثنيات الواردة في الروايات الأُخرى. [23]
آية الله الشيخ جعفر سبحاني
[1] . النحل: 93.
[2] . الأنبياء: 23.
[3] . الزمر: 7.
[4] . الزلزلة: 6.
[5] . التكاثر: 8.
[6] . انظر سورة الحجر:92ـ 93.
[7] . الزخرف: 44.
[8] . الزخرف: 19.
[9] . التكوير:8ـ 9.
[10] . النحل: 56.
[11] . الأحزاب: 8.
[12] . نهج البلاغة: قصار الحكم، رقم 7.
[13] . نهج البلاغة، الخطبة 41.
[14] . البحار:7/258، باب محاسبة العباد، الحديث 1. ولاحظ الأحاديث: 3، 11و 31.
[15] . البحار:7/267، باب محاسبة العباد، الحديث 33.
[16] . البحار:7/265، باب محاسبة العباد، الحديث 22.
[17] . البحار:7/272، باب محاسبة العباد، الحديث 39.
[18] . البحار:7/272 باب محاسبة العباد، الحديث 41.
[19] . نهج البلاغة: الخطبة 82.
[20] . نهج البلاغة: الخطبة 167.
[21] . بحار الأنوار:7/261، باب11، الحديث 10.
[22] . بحار الأنوار:7/265، باب11، الحديث 23.
[23] . منشور جاويد:9/285ـ 291.