تعرضنا في المقال
السابق لذكر خمسة
أمور من أسرار
الموفقيّة من
وجهة نظر الإمام
عليّ عليه
السلام. وفيما
يلي نشير إلى ستة
أمور أخرى.
6ـ وجود هدف
وجود هدف في
الحياة هو من
اللوازم
الأساسيّة للحياة
السعيدة ذات
المعنى. ويحصل
الإنسان على
الاطمئنان
والهدوء عندما
يرسم لنفسه أفقاً
واضحاً يبيّن
مستقبله ثمّ يسعى
برضىً ورغبة
داخليّة في
الوصول إلى ذاك
الأفق. وأسوأ
حالة يعيشها
الإنسان عندما
يشعر بالضياع
وعدم وضوح
التكليف المطلوب
منه.
من جهة أخرى فإنّ
كافّة المخلوقات
من أكبرها إلى
أصغرها، قد وُجد
لهدف معيّن،
والإنسان واحد من
هذه المخلوقات
حيث وُجد لأجل
هدف أيضاً. من
هنا نجد أنّ
الإمام أمير
المؤمنين
عليه
السلام يقول:
"فما خُلق امرؤٌ
عبثاً"1.
وإذا كان الإنسان
لم يخلق من دون
هدف، فإن أعماله
يجب أن تحصل على
أساس هدف معين.
وإذا كان الوصول
إلى كافّة
الأهداف والآمال
غير ممكن في هذه
الحياة القصيرة،
لذلك يجب اختيار
أفضل الأهداف.
وأمّا إذا تعدّدت
الأهداف والآمال
فلن يحصِّل
الإنسان نتيجة
جهوده سوى
الخيبة
والفشل: "من
أومأ إلى متفاوت
خذلته الحيل"2
وإذا وصل إلى
مكان ما فسيضيِّع
المسائل الأهم،
كما يقول الإمام
عليّ عليه
السلام: "من
اشتغل بغير
المهمّ ضيّع
الأهم"3.
إنّ الشخص الذي
يسعى نحو
الموفقيّة في
الأعمال، عليه
تحديد هدفه من
البداية ثمّ عليه
تحديد أهمّ
الأهداف، ثمّ
عليه أن يبذل
جهوده لتحقيقها،
لأنّ موفقيّة
الإنسان في
الأعمال، تابعة
لتلك التي تقوم
على أساس التفكير
والتدقيق. يقول
الإمام عليه
السلام: "إنّ
رأيك لا يتّسع
لكلّ شيء ففرّغه
للمهمّ"4.
طبعاً هنا يجب
الإشارة إلى
مسألة مهمّة وهي
أنّه لا يجوز
للإنسان استخدام
أيّ وسيلة للوصول
إلى الهدف
فالأهداف لا تبيح
الوسائل. يقول
الإمام علي عليه
السلام: "ما
ظَفَرَ من ظَفَرَ
الإثم به،
والغالبُ بالشرّ
مغلوب"5.
7ـ الهمّة
الإرادة هي إحدى
القوى الموجودة
في باطن وجود
الإنسان، وهي
قوّة يتمكّن
الإنسان من خلال
تقويتها من
التغلّب على
الكثير من
المشاكل الروحيّة
والجسمانيّة. ومن
علامات المؤمن
امتلاك إرادة
قويّة وهمّة
عالية. يقول
الإمام عليّ عليه
السلام في توضيح
صفات المؤمن:
"بعيدٌ همُّهُ"6
ويعتبر أنّ قيمة
وقدر كلّ إنسان
بمقدار همته:
"قَدْرُ الرجل
على قَدْرِ
همَّته"7.
ممّا يجب الإشارة
إليه أنّ الهمَّة
العالية لا
تتلاءم مع
الاهتمام برفاه
الأبدان،
بل
يؤدّي ذلك إلى
عدم الموفقيّة.
يقول الإمام عليّ
عليه السلام:
"فشدّوا عُقَدَ
المآزر واطوُوا
فضول الخواصر ولا
تجتمع عزيمة
ووليمة"8.
كذلك يجب
الابتعاد عن
الأشخاص الضِعاف
الهمّة ويجب عدم
الاعتماد عليهم:
"ولا تأمننّ
ملولاً"9.
8ـ الصديق
خلق الله الإنسان
محتاجاً إلى أخيه
الإنسان،
فالمجتمع
الإنسانيّ قد
تأسّس على أنّ
الشخص محتاج إلى
الشخص الآخر.
وهنا يكون الدور
المطلوب من
المجموعة ذات
العمر المتقارب
بالأخصّ الأقارب،
حسّاساً وخطيراً.
ويكفي في أهميّة
الأصدقاء القول
بأنّ شخصيّة
الإنسان تقاس على
أساس صداقاته.
يقول الإمام عليّ
عليه السلام:
"فإنّ الصاحب
معتَبرٌ بصاحبه"10.
وممّا لا شكّ فيه
أنّ أصدقاء الشخص
هم الذين يقومون
بالدور الأساس في
موفقيّته، وقد
يكون نفس هؤلاء
الأصدقاء سبباً
لشقائه وتعاسته.
يوصي الإمام عليّ
عليه السلام ابنه
قائلاً: "يا
بنيّ إيّاك
ومصادقة الأحمق
فإنّه يريد أن
ينفعك فيضرّك
وإيّاك ومصادقة
البخيل فإنّه
يقعد عنك أحوج ما
تكون إليه وإيّاك
ومصادقة الفاجر
فإنّه يبيعك
بالتافه وإيّاك
ومصادقة الكذّاب
فإنّه كالسراب
يُقَرِّب عليك
البعيد ويبعد
عليك القريب"11
والأصدقاء
الصالحون يقرّبون
الإنسان من
الموفقيّة
والفلاح بينما
الطالحون يبعدونه
عن أيّ نوع من
أنواع الموفقيّة.
ومجالسة الفاسدين
تؤثّر في الشخص
وتبعث على قساوة
القلب وتوصله إلى
العذاب الإلهيّ.
يُذكر أنّ شخصاً
واسمه "عقبة
بن أبي المعيط"
كان يعيش في
بداية بعثة
الرسول
الأكرم
صلى الله عليه
وآله وسلم وكان
عابداً للأصنام
في الحجاز، إلّا
أنّه كان كريماً
مضيافاً. مَرَّ
عليه الرسول صلى
الله عليه وآله
وسلم في أحد
الأيّام فدعاه
لتناول الطعام
معه، أخبره
الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم
أنّه لن يجلس معه
على سفرة واحدة
إذا كان غير
مسلم، عند ذلك
تلفّظ بالشهادتين
وأسلم. وكان له
صديق ويدعى
"أبيّ" علم
بما جرى فأسرع
إلى عقبة يوبّخه
على فعله، فأخبره
عقبة بأنّ الرسول
صلى الله عليه
وآله وسلم رفض أن
يجلس على مائدته
حتّى يسلم،
فأسلم، عند ذلك
خاطبه "أبي"
بأنّه قطع صداقته
به إلّا أن يعود
إلى عبادة
الأصنام، ففعل
وخرج من الإسلام.
ثمّ قتل في بدر
على يدي جيش
الإسلام. وقتل
أبي في أحد. فمات
الإثنان مشركين.
وفي هذا الشأن
نزلت الآيات 27
إلى 29 من سورة
الفرقان حيث يقول
تعالى:
﴿وَيَوْمَ
يَعَضُّ
الظَّالِمُ عَلَى
يَدَيْهِ يَقُولُ
يَا لَيْتَنِي
اتَّخَذْتُ مَعَ
الرَّسُولِ
سَبِيلًا * يَا
وَيْلَتَى
لَيْتَنِي لَمْ
أَتَّخِذْ
فُلَانًا
خَلِيلًا *
لَقَدْ
أَضَلَّنِي عَنِ
الذِّكْرِ بَعْدَ
إِذْ جَاءنِي
وَكَانَ
الشَّيْطَانُ
لِلْإِنسَانِ
خَذُولًا﴾.
توضح الآيات
الشريفة
المتقدّمة الدور
المخرّب للصديق
الطالح في خلال
الإنسان.
وتحذّرنا هذه
القصّة من مصادقة
غير الصالحين.
يقول الإمام عليّ
عليه السلام:
"لا ينبغي للمرء
المسلم أن يؤاخي
الفاجر فإنّه
يزيّن له فعله
ويُحبُّ أن يكون
مثله ولا يعينه
على أمر دنياه
ولا أمر معاده
ومدخله إليه
ومخرجه من عنده
شين عليه"12.
9ـ الاستعانة
بالتجارب
الاستفادة من
التجارب واحدة
أخرى من أسباب
الموفقيّة.
والذين يرون
أنفسهم ليسوا
بحاجة إلى
التجربة، فلن
يصلوا إلى
مقاصدهم. يقول
الإمام عليّ عليه
السلام: "من
غني عن التجارب
عُمي عن العواقب"13.
إنّ الذي يسعى
للوصول إلى الهدف
المتعالي عليه أن
يعبر كافّة
الاعوجاجات
والصعوبات
المزروعة في
الطريق ليتمكّن
من التغلّب
عليها، وعليه أن
يعلم أنّ هذا لن
يحصل إلّا من
خلال الاستفادة
من التجارب. يقول
الإمام: "كلّ
معونة تحتاج إلى
التجارب"14.
ويكفي القول في
أهميّة التجربة
إنّ حفظ التجارب
من علامات
العقلاء.
يقول الإمام عليّ
عليه السلام:
"والعقل حفظ
التجارب"15.
ويقول الإمام
عليه السلام
أيضاً: "ومن
التوفيق حفظ
التجربة"16.
إنّ الذين يعملون
لأجل أهداف عالية
يتربّص بهم أعداء
ماكرون.
والاستفادة من
التجارب تجعلهم
عارفين بهذه
الحيل. يقول
الإمام عليه
السلام: "من
لم يجرّب الأمور
خُدع"17.
يجب الاستفادة
قدر المستطاع من
التجارب
الموجودة، إذ لا
يوجد شقاء أكبر
من عدم الاستفادة
من التجارب
الموجودة. وقد
أكّد الإمام عليّ
عليه السلام على
هذا الأمر في
رسالته إلى أبي
موسى الأشعريّ:
"فإنّ الشقيّ
من حُرم نفع ما
أوتي من العقل
والتجربة"18.
يواجه الإنسان في
حياته الكثير من
الأحداث المريرة
التي هي من لوازم
الحياة؛ لأنّ
مواجهة الإنسان
للأحداث وتعامله
معها هي التي
تصنع منه إنساناً
ما. ومن الضروريّ
مواجهة المشاكل
والاستفادة من
التجارب الموجودة
يقول الإمام عليه
السلام: "ومن
لم ينفعه الله
بالبلاء والتجارب
لم ينتفع بشيءٍ
من العِظَة"19.
10ـ المشورة
إنّ مشاورة أصحاب
الفكر الطاهر
والخالص وأصحاب
الهمم العالية،
تمهّد الطريق
أمام الإنسان في
الوصول إلى
الأهداف
المتعالية. وكان
الرسول الأكرم
صلى الله عليه
وآله وسلم يدعو
الناس إلى مشاورة
الآخرين ويقوم هو
أيضاً بذلك،
وقصّة حرب الخندق
أكبر شاهد على
الأمر. يحتاج كلّ
إنسان إلى داعم
قويّ يكون سنداً
له عند الأزمات.
والمشورة واحدة
من أبرز الأمور
التي تدعمه
بالأخصّ مشورة
رجال الله
العظام. يقول
الإمام عليّ عليه
السلام: "لا
ظهير كالمشاورة"20.
يُستفاد من كلام
الإمام عليّ عليه
السلام في نهج
البلاغة أنّ
المستبدّين
بآرائهم والذين
يفضّلون عقيدتهم
على من سواهم، في
معرض خطر عظيم.
يقول الإمام عليه
السلام:
"والاستشارة عين
الهداية وقد خاطر
من استغنى برأيه"21.
ويقول الإمام
عليه السلام:
"من استبدّ برأيه
هلك ومن شاور
الرجال شاركهم في
عقولهم"22.
إنّ ترك المشورة
في الأمور
المعنوية
والماديّة يحمل
آثاراً سلبيّة لا
يمكن أن تعوّض،
ومشاورة الصالحين
وأصحاب الأفكار
العالية، تجعل
الشخص عارفاً
بموارد الخطأ
والاشتباه وتصونه
من الوقوع فيهما.
يقول الإمام عليّ
عليه السلام:
"من استقبل وجوه
الآراء عرف مواقع
الخطأ"23.
ـ
من نشاور؟
ينبغي مشاورة
الإنسان صاحب
الفهم والعارف
بأمر المشورة،
والذي يمكن
اللجوء إليه
للمشاورة. وينبغي
مشاورة من يتحدّث
بما يقبله العقل.
يقول الإمام عليه
السلام: "لا
تشاور من لا
يصدقه عقلك"24
وينبغي مشاورة
الشخص الناصح
والعالم وصاحب
التجربة، يقول
الإمام عليه
السلام: "أمّا
بعد فإنّ معصية
الناصح الشفيق
العالم المجرّب
تورث الحسرة
وتعقب الندامة"25.
ويقول الإمام
عليه السلام
أيضاً: "أفضل
من شاورت ذو
التجارب"26.
يحذّر الإمام
عليّ عليه السلام
والي البصرة من
مشاورة بعض
الأشخاص فيقول:
"ولا تدخلنّ
في مشورتك بخيلاً
يعدل عن الفضل
ويعدك الفقر ولا
جباناً يضعفك عن
الأمور ولا
حريصاً يزيّن لك
الشره بالجور
فإنّ البخل
والجبن والحرص
غرائز شتى يجمعها
سوء الظنّ بالله"27.
11ـ النظم
والتخطيط
اعتبر أولياء
الإسلام العظماء
أنّ رعاية النظم
والتخطيط في
الأعمال من جملة
المسائل المهمّة
في حياة الإنسان،
فأكّدوا على
القيام بذلك.
يوصي الإمام عليّ
عليه السلام
الإمامين الحسن
والحسين عليهما
السلام قائلاً:
"أوصيكما
وجميع ولدي وأهلي
ومن بلغه كتابي
بتقوى الله ونظم
أمركم"28.
ينبغي لكلّ
إنسان، إيجاد
النظم في أعماله
الحياتيّة
ليستفيد من عمره
أفضل استفادة.
ومن أبرز ما يدلّ
على النظم أن
يقسم الإنسان
أوقاته في الليل
والنهار على أساس
احتياجاته، ليكون
النظم هو الأساس
لحياته. يقول
الإمام عليّ عليه
السلام:
"للمؤمن ثلاث
ساعات، فساعة
يناجي فيها ربّه،
وساعة
يَرُمُّ
معاشه، وساعة
يخلي بين نفسه
وبين لذتها فيما
يحلّ ويجمل. وليس
للعاقل أن يكون
شاخصاً إلّا في
ثلاث، مَرَمَّةٍ
لمعاش أو خطوةٍ
في معاد أو لذّة
في غير مُحَرَّم"29.
النظم والتخطيط،
ينظّمان الحياة
وهما أفضل وسيلة
للوصول إلى
الأهداف الكبيرة.
ومن خلال النظم
والتخطيط نجعل
الحياة مثمرة
ونبتعد عن ضياع
العمر. يقول أحد
طلاب الإمام
الخمينيّ
قدس سره
إنّ النظم الدقيق
في الحياة من
الخصائص المعروفة
والمشهورة عند
الإمام. وقد وضع
لكلّ عمل وقتاً
خاصّاً حتّى
الأعمال
المستحبّة وقراءة
القرآن والأدعية،
فكلّ من يعرف
الإمام قدس سره،
يعرف ما هو العمل
الذي يقوم به في
كلّ وقت30.
يوصي الإمام عليّ
عليه السلام مالك
الأشتر ويقول:
"وأمضِ لكلّ يوم
عمله فإنّ لكل
يوم ما فيه"31.
* من كتاب روضة المبلغين (3)، سلسلة روضة المبلغين، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- نهج البلاغة،
الحكمة 370.
2- المصدر نفسه، الحكمة 403.
3- غرر الحكم، الرقم 10944.
4- المصدر نفسه، الرقم 555.
5- نهج البلاغة، الحكمة 327.
6- المصدر نفسه، الحكمة 332.
7- المصدر نفسه، الحكمة 47.
8- المصدر نفسه، الخطبة 241.
9- المصدر نفسه، الحكمة 211.
10- المصدر نفسه، الرسالة 69.
11- المصدر نفسه، الحكمة 38.
12- الكافي، ج2، ص460، ح2.
13- غرر الحكم، الرقم 10162.
14- البحار، ج75، ص7، الحديث 59.
15- نهج البلاغة، الرسالة 31.
16- المصدر نفسه، الحكمة 211.
17- بحار الأنوار، ج74، ص422؛ الارشاد، المفيد، ج1، ص300.
18- نهج البلاغة، الرسالة 78.
19- بحار الأنوار، ج2، ص312؛ نهج البلاغة، الخطبة 176.
20- نهج البلاغة، الحكمة 54.
21- المصدر نفسه، الحكمة 211.
22- المصدر نفسه، الحكمة 161.
23- المصدر نفسه، الحكمة 173.
24- بحار الأنوار، ج72، ص103، الحديث 33؛ مصباح الشريعة، ص152، الباب الثاني
والسبعون في المشاورة.
25- نهج البلاغة، الخطبة 35.
26- غرر الحكم، الرقم 10075.
27- نهج البلاغة، الرسالة 53.
28- المصدر نفسه، الرسالة 47.
29- المصدر نفسه، الحكمة 390.
30- يابه باي آفتاب، أمير رضا ستوده، ج2، ص170، انتشارات بنجره.
31- نهج البلاغة، الرسالة 53.