بسم الله الرحمن الرحيم
لم يعد خافياً على أحد كثرة ما يطرح من هنا وهناك – تارة تحت عنوان "المعرفة الدينية"، وتارة أخرى تحت عنوان "دور العقل" وتارة ثالثة، وهو الأهم، بعنوان "دور العقل في المعرفة الدينية"- من نظريات وآراء لا ننكر أن بعض طروحاتها خطت خطوات مهمة وقدمت أفكاراً جديرة بالاهتمام، وانقسم حولها أهل البحث والفكر مذاهب شتى. وقد تجاوز البحث دائرة الإسلاميين، بل الظاهر من خلال أدنى تتبع، أن الإسلاميين دخلوا في هذه البحوث من باب ردة الفعل، وهو ما أوقعهم في نوع من المحاذير المنهجية مثل التعاطي مع الآخرين على أساس الخصومة من دون تقييم دقيق للأفكار المطروحة في حد نفسها، ومثل تقديم ردود هي أقرب إلى الإسكات من الإقناع. في مقابل نوع آخر من المحاذير المنهجية وقع فيها آخرون، مثل عدم التاسيس الكافي للطروحات بحيث يتحقق الانسجام التام فيها، والاكتفاء في جملة من الأحيان بخطابات عاطفية من خلال عبارات رنانة أبرزها التركيز على لفظة الحرية. ومثل عدم الفهم الكافي لما طرحه العلماء المسلمون فيسرى اعتراض له موضوع في بعض مجالات المعرفة الدينية غير الإسلامية إلى باب المعرفة الدينية الإسلامية، من دون التأكد من وجود نفس الموضوع.
لقد حمل هم بحث المعرفة الدينية كل من اهتم بالدين من مسلمين وغيرهم، وإن اختلفت الدواعي في الاهتمام بالدين. فبعضهم انطلق من الإيمان به، وبعضهم انطلق من قناعة بضرورة إقصاء الدين، وبعضهم كان يسعى مخلصاً لإيجاد نحو مصالحة بين الدين والمعرفة، أو بين المعرفة الدينية والعقل، أو بين النص والعقل.
لهذا السبب وذاك يمكننا القول بوجود نحو تخبط في البحث المتعلق بالمعرفة الدينية عموماً، وفي التأسيس الكافي لتحقيق دور العقل والنص في تشكيل المعرفة الدينية، وبالأخص دور العقل في تشكيل هذه المعرفة. فهل العقل منفصل عن النص باعتبار أن مجال العقل في المعرفة يختلف جوهرياً عن مجال النص، وأن النص لا ينفع إلا في مجال الإيمان ولا ينفع في مجال العقل، أم أن له علاقة به. ومع فرض العلاقة، فهل يتقدم على النص أم النص هو المتقدم عليه؟ وما هي المساحة المتاحة للعقل في تشكيل تلك المعرفة؟ وكيف يمكن تثبيت تلك المساحة أمام النص أو معه؟ وهل فقد النص قيمته إلا بمقدار ما يكون طيعاً للعقل باعتبار أنه صاحب السلطة في كل معرفة إجمالاً أو تفصيلاً، أو باعتبار أن النص يشكل حالة تاريخية مضت لم يعد يصلح للحالة الحاضرة أو المستقبلية؟ بعض هذه الطروحات يتم التصريح بها بشكل مباشر، وبعضها يتم التلويح بها من دون التصريح المباشر.
كل هذا دعانا للبحث بعناية في سياق حوارٍ موضوعي وبناءٍ حول بعض ما يطرح في مجال تشكيل المعرفة الدينية. وقد اقتصرنا على بحث دور العقل فيها نظراً إلى أن البحث عن دور العقل والنص في تشكيل تلك المعرفة يخرج عن الفرصة المتاحة في هذا الكتاب.
وتكمن أهمية هذا البحث وخطورته في أنه يطال حيزاً هاماً من مساحة الفكر الإنساني، ظل ولم يزل شأناً خاصاً بطائفة من أهل العلم المختصين يشار إليهم عادة بين المسلمين بالفقهاء، يتبعهم غيرهم في النتائج مهما بلغ الغير من الثقافة، وهو الأمر الذي أشعر كثيراً من المثقفين بحالة من الإقصاء عن مجال المشاركة في المعارف الدينية. وكان للتطورات الحاصلة في مجالات المعرفة في المجتمعات الدينية غير الإسلامية أثرها البارز في تحفيز المثقفين المسلمين للاستفادة من تلك التطورات، والعمل على إيجاد مكان ملائم لهم في تلك المجالات.
ونحن لا ننكر على المثقفين مثل هذا النشاط وهذه الحيوية، بل نؤمن بضرورة مشاركتهم وعدم صحة الواقع الراهن الذي كان يحيد فئة خاصة متميزة مثقفة واعية لم تتم الاستفادة من قدراتها بالشكل السليم، خاصة وأن كثيراً من المعارف الدينية لا يمكن للفقهاء أن يكونوا المرجع الوحيد فيها، بمعنى أنهم لا يمكنهم الاستغناء عن أي تطور معرفي، ولا عن المثقفين الذين ثبت أن بإمكانهم المساهمة الفعالة في مجال الوصول إلى معرفة دينية صحيحة، فكان لا بد أن تتحقق نحو علاقة بين الفقهاء والمثقفين يتحدد فيها المجالات التي يجب على المثقف أن يرجع فيها إلى الفقيه، والمجالات التي يجب على الفقيه أن يستعين فيها بالمثقفين.
أهمية مسألة المنهج:
إن من أهم المسائل المطروحة في مجال المعرفة الدينية ودور العقل، مسألة المنهج. ومسألة المنهج هذه لاقت تطوراً لاقتاً في هذه العصور ربما لم يطلع عليه الفقهاء، وبالتالي يمكن للمثقفين أن يقدّموا طروحاتهم في هذا المجال بين يدي الفقهاء حتى يمكنهم الاستفادة منها. والإنصاف يقتضي منا أن نقول أن البحث في المنهج لم يغفله علماؤنا السابقون ولا أهملوه في المناقشات.
فقد انقسم المسلمون، على مستوى المنهج، مذاهب شتى، نلحظه ليس فيما بين المذاهب فقط، بل بين أتباع المذاهب الواحد. ففي المذهب السني ظهر منهجان نقلي وعقلي، كان من رواد المنهج الأول المذهب الأشعري والمذهب الظاهري، ومن رواد الثاني المذهب المعتزلي، إلا أن الأشاعرة نفسهم عادوا واختلفوا، كما أن المعتزلة انقرضوا نسبياً إلا أنه أحيي أمرهم بطريقة أخرى في العصر الحديث.
وفي المذهب الشيعي أيضاً ظهر منهجان بين مدرستين: الأولى هي المدرسة الأصولية، وتجمع بين المنهجين العقلي والنقلي، وترجح العقل القطعي عندما يتعارض مع النقل وفق ضوابط محددة ذكروها في كتبهم الأصولية. والثانية هي المدرسة الإخبارية التي تطرّف فيها بعضهم إلى حد إلغاء أي قيمة للعقل فيما يتعلق بالشريعة، بل وحتى في الأمور التكوينية الواقعية، وبلغ من بعضهم أن ألغى أي قيمة للنص القرآني في مجال المعرفة الدينية حتى الفقهية منها، وقصر البحث حول النص الوارد عن الرسول صلى الله عليه واله وسلم والأئمة عليهم السلام، بزعم أن النص القرآني لا يفهمه إلا المعصومون عليهم السلام.
ومن اطلع على هذه القضية طرح تساؤلاً حول ما إذا كان المنهج العقلي المتبنّى من بعض المدارس الإسلامية الشيعية والسنية يحتاج إلى تقويم وتطوير أم لا زال على فعاليته من دون حاجة إلى أي تعديل.
إن الاختلاف القائم بين العلماء المسلمين في المناهج رغم حدته لم يتولد منه منهج يعتمد على العقل محضاً، وربما كان هذا من المستحيلات في إطار المعرفة الدينية، ولم تظهر حتى الآن دعوى من هذا القبيل إلا إذا كانت تهدف إلى الاستغناء عن النص كلياً. إلا أن هذا لا يلغي ظهور بعد الدعوات ولو بشكل غير صريح نحو الاعتماد على العقل محضاً، وأمام هذه الدعوات التي سنشير إلى أصحابها فيما بعد صرنا أمام ثلاثة مناهج مقترحة: منهج يعتمد على العقل والنقل، ومنهج يعتمد على النقل محضاً، ومنهج يدعو للاعتماد على العقل محضاً. إلا أن البحث المعمق يفضي إلى الإقرار بأن دعاة الاعتماد على النقل محضاً لم يكونوا مخلصين لدعوتهم، وربما لم يتمكنوا من إبداء هذا الإخلاص بسبب أن العقل لا يمكن الاستغناء عنه حتى في دائرة الاعتماد على النقل، لأنه اعتماد يرتكز على مقدمات يفترضون أنها عقلية، ويجب أن تكون كذلك إن لم يفترضوها هم.
كل هذا الذي تقدم هو ما دفعنا للبحث عن دور العقل في تشكيل المعرفة الدينية.
سماحة الشيخ مالك وهبي العاملي