بسم الله الرحمن الرحيم
كثيرا ما يتردد على الألسن، وفي المنتديات الفكرية والثقافية، أن الحرية حق من حقوق
الإنسان، وهذا يستلزم البحث عن معنى الحق ودلالته، لنتبين صحة هذه المقولة ومدى
حدوده، نظرا للغموض الذي يكتنفه، ذلك أنه، على الرغم من دغدغتها مشاعر الناس
وعواطفهم، إلا أنها ليست بالوضوح الذي يبدو منها للوهلة الأولى. وهذا الغموض
والإبهام هو الذي يفسر اختلاط الأمر عليهم، فيقعون في أسر ما يعملون على الفرار منه.
معنى الحق:
الأصل في الحق هو المطابقة والموافقة للواقع ، ولازمه ثبوت واقع معين بحيث تكون
مطابقته حقا أي صدقا وموافقة، وعدمها كذبا وباطلا، لوضوح مقابلة الحق مع الباطل،
والصدق مع الكذب، فلا معنى لكلمة الحق والباطل من دون واقع وراءها تحكيه.
حدود الواقع وحقيقته:
تارة يكون المراد بالواقع عالم الطبيعة والتكوين، وما يتمتع به الكائن من امكانات
وقدرات، تتناسب وطبيعته التكوينية، فالحق في هذه الحالة هو الجري وفق السنن
التكوينية، التي تنطبق على ذاته، ويسمى الحق الطبيعي.
وهذا من قبيل الطعام والشراب والمسكن ونحو ذلك، مما يحتاجه الإنسان من أمور تحفظ
بقاءه، وتضمن له الحياة، فيقال مثلا أن من حقه أن يعيش، وأن يبقى على قيد الحياة، وهذا النوع من الحق غير قابل للجعل والاعتبار، وبالتالي فإن أي تصرف أو تلاعب فيه، سوف يؤدي لا محالة إلى القضاء عليه، وهو عين الفساد.
وأخرى يكون الواقع جعليا اعتباريا، بمعنى انه خاضع لجعل جاعل واعتبار معتبر، وفي
هذه الحالة تكون حدود الواقع مختلفة سعة وضيقا، بحسب الجعل والوضع، الذي افترضه له
الجاعل، بمعنى أنها تابعة لنفس الجعل، ومحددة بحدوده المفترضة، ويسمى الحق المكتسب.
وهذا من قبيل القوانين والتشريعات التي تضعها الدول والمؤسسات، لتنظيم شؤون
المنضوين تحت لوائها وسلطتها، كقانون الملكية والزواج وسائر العقود والإيقاعات
المرتبطة بحياتهم او سلوكياتهم.
غاية التشريع:
لا شك أنه لا معنى للتصرف زيادة ونقيصة في عالم التكوين، والحق الطبيعي، كما أشرن، ذلك أن الإنسان، بل كل كائن في هذا العالم، مرهون لمقتضيات سنن التكوين، التي لا
يمكن تخطيه، أو الخروج من دائرته، لخروجها عن دائرة قدراته وطاقاته، فمثلا لا
يمكن جعل الإنسان قادرا على الطيران، أو في غنى عن التنفس أو الأكسيجين، أو المأكل
والمشرب وأمثال ذلك.
وأما الحقوق الجعلية، فلما كانت خاضعة للجعل والاعتبار، يفرضها تنظيم حياة الناس، فهي تتوقف على ملاكات وأسباب تصحح
جعله، ووضعها في معرض التنفيذ.
إن القاعدة الأساسية، التي تحكم هذه الملاكات، هي مصلحة النوع البشري على العموم، سواء في بعده الفردي أم الجماعي، وهو ما يرتبط ارتباطا مباشرا بالهدف من وجود
الإنسان على الأرض، والوظيفة الملقاة على عاتقه في إعماره، وتحقيق السعادة
الحقيقية للنوع الإنساني برمته.
وما دامت غاية التشريع، أولا وبالذات، تحقيق السعادة الحقيقية للنوع الإنساني، وإيصال التوازن إلى الأجيال القادمة، فمن غير الممكن أن تكون التشريعات المرتبطة
بها امرا اعتباطي، ناشئا عن مجرد أهواء وحاجات، تمليها مصالح ذاتية ضيقة، وإنما
تقتضي البعد عن الأهواء والمصالح الخاصة قدر الإمكان، ولهذا لا يمكن لكل شخص أن
يتصدى لمهمة سن القوانين والتشريعات، لأن معنى ذلك نشوء الفوضى والفساد، نتيجة
تضارب الرؤى والمصالح، لأنه سوف يبحث كل فرد عما يتناسب مع مصلحته الخاصة، ويجعل
منها قانونا يريد تعميمه على جميع الناس، ولازمه تحقق شريعة الغاب، وهو ما يعني نقض
الغاية التي يوجد التشريع لأجله، وبالتالي انتهاءها وزواله، "ظهر الفساد في البر
والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ".
إن تحقيق هذه السعادة متوقف بدوره، على إدراك المصالح المترتبة على أي تشريع، أو
قانون يحفظ البقاء، ويورث الأجيال القادمة عالم، خاليا من الأزمات والمشاكل، ومن
المؤثرات السلبية في حياته، سواء كان ذلك على المستوى النفسي الفردي، أم على
المستوى الجماعي العام أيض، وهو ما يتطلب نوعا من الاحاطة في مختلف ميادين الحياة
الاقتصادية، والبيئية، والمعرفية، والسياسية، والفكرية، وغيره، وبعبارة موجزة:
الاحاطة بما يصلح وجود الإنسان وينظم حياته.
ولكن مجرد المعرفة والاحاطة لا تكفي وحدها في تحقيق الغاية المنشودة، كما هو ظاهر،
بل لا بد من العمل وفق ما تقتضيه هذه المعرفة، على المستوى الإجرائي في مختلف
الجوانب المرتبطة بحياته ومصلحته العامة، والآيلة إلى تحقيق سعادته.
الحق والعدل:
وهنا تبرز مسألة العدل والظلم إلى الواجهة، إذ ما من شك في أن الجري وفق ما تقتضيه
طبيعة الحق يكون عدل، فإذا كان الحق طبيعيا كان توفير جميع الشرائط التي يتطلبها
بقاؤه عدل، وأما سلبه لهذه الحقوق، على نحو يؤثر سلبا على حياته، في أي جانب من
جوانبها يعد ظلما له واعتداء عليه.
كما أن تشريع القوانين، والأحكام المرتبطة بتنظيم حياته، على مستوى السلوك، على نحو
يؤدي إلى إيصاله للغاية المنشودة، والتي وجد من أجله، وهي اعمار الأرض، وإقامة
العدل، وتثبيت خلافة الله تعالى في الأرض، وربطه به تعالى، يمثل عين العدل.
وأما إذا لم تؤد القوانين والأحكام المسنونة إلى هذه الغاية، فهي الظلم والجور، إذ
ليس الظلم سوى سلب الآخرين حقوقهم الثابتة لهم، سواء كان ذلك متعلقا بنظام الحكم، أم بالعلاقات العامة بين الناس، أم في ما يصلح الإنسان في ذاته، من دون تغليب جانب
على جانب، كما يقتضيه معنى العدل، وهو من هذه الجهة مطابق لمعنى الحق، بل هما شيء
واحد في الحقيقة، لأن كلا منهما يعني اصابة الواقع، وعدم الانحراف عنه، وبهذا
المعنى يفسر العدل في قوله تعالى: "وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته ".
مواصفات المشرع:
وما دامت المسألة ترتبط بمصلحة الإنسان، وتنظيم شؤون حياته، فمن غير المنطقي أن
تبقى متروكة لكل عابث، ولا بد أن يتصف المشرع بمواصفات، تمكنه من التشريع بما
يتناسب مع مصلحة الجماعة الإنسانية، بحيث يحفظ كيانيته، ويسير بها نحو الغاية
المنشودة، ويؤدي بها إلى انتظام مسيرة حياتها.
والسؤال الذي يطرح نفسه في المقام، من هي الجهة، أو الشخص، أو الأشخاص القادرون على
القيام بمثل هذه المهمة الخطيرة والحساسة.
ومن حيث المبد، هل يمكن للإنسان أن يضطلع بهذه المهمة، بعد فرض ضرورة كون المشرع
مطلع، على الأبعاد والخصوصيات المرتبطة بالنوع الإنساني، بحيث يحقق مصلحته، ويجنبه
كافة ما يضره في مسيرة حياته.
وفي هذا المجال نجد اختلافا أساسيا وجوهري، بين الرؤية الإسلامية، وبين النظريات
الوضعية، حيث يرى الإسلام أن العقل البشري يمكن أن يقارب قسما من القضايا، ويقتحمه، ويتفاعل معها.
إلا أن هناك قسما آخر من القضاي، يقف العقل عاجزا عن مقاربته، وإن جهد في سعيه، لأن مقاربة هذا النوع من القضايا خاص به تعالى، بحيث يكون الولوج فيه، بمعزل عن
التشريعات الإلهية، ظلما له تعالى، واعتداء على حق من حقوقه، وهذا أحد أعمدة الفساد
في الأرض.
وهذا بخلاف النظم الوضعية، التي لا ترى في مقاربة هذه القضايا أي محذور، بل هي ترى
أن مقاربة جميع أنواع القضايا الحقوقية من شؤونها ووظائفه، ويترتب على ذلك أن عدم
مقاربتها واقتحامه، من قبل العقل البشري سلب لحقوقه، وظلم له.
ويترتب على هذا الاختلاف اختلاف في تثبيت الحق والعدل، والباطل والظلم، فقد ينظر
إلى أمر على انه حق بحكم الأنظمة الوضعية، يكون بعينه ظلما في قانون الإسلام،
والعكس أيضا صحيح، وهذا من قبيل قانون الإرث فان"للذكر مثل حظ الأنثيين" في القانون
الإسلامي، ولكن الأنثى كالذكر في القوانين الوضعية.
وعليه فإعطاء البنت سهما مساويا للصبي يكون عدلا بحسب القوانين الوضعية، ولكنه ظلم
وسلب لحقوق الذكر في الإسلام، كما أن إعطاءها نصف سهم الذكر ظلم لها في القوانين
الوضعية، ولكنه عين العدل في النظام الإسلامي، وهكذا الحال بالنسبة للحقوق السياسية،
والإعلامية، والاقتصادية، والفكرية وغيرها.
والأمثلة على هذه الاختلافات كثيرة، على نحو لا يمكن التوفيق بينه، ولا المساومة
على أي من مفرداته، لأن أي تنازل من أي من الطرفين، يعني نحوا من أنحاء الظلم من
جهة، وهو بعينه عدل نسبي من جهة أخرى.
في مثل ذلك تكمن أهمية وخطورة اختيار أي من المبدأين في ملاكات التشريع، ويبدأ منه
السؤال الطبيعي والمشروع الذي ذكرناه في المقام، وهو: من الذي يكون بيده أمر
التشريع، وما هي مواصفات المشرع، وهي تساؤلات ترتبط بمصلحة الإنسان وانتظام شؤون
حياته.
وما دام الملاك والميزان في إحقاق الحق، هو تحقيق مصلحة النوع الإنساني وسعادته،
فان من الطبيعي أن يرى الإسلام التشريع حقا من حقوق الله تعالى،وأن أي اقتحام له من
قبل الإنسان، هو اعتداء على حقوقه تعالى، وظلم له، ذلك أنه تعالى وحده العالم بما
يصلح الإنسان، وما يفسده، إذ هو المطلع على خفايا الأمور، وأسرار التكوين، وما تكنه
النفوس دون سواه.
إلا أن ذلك لا يعني حرمان الإنسان من كل ما يتعلق بأمور التشريع، بل لقد ترك
الإسلام له مساحة، يمكنه أن يتحرك فيه، ضمن إطار الكليات التي حددتها الشريعة، وهي
تتعلق بالأحكام والقوانين الإجرائية، وما يتعلق بتدبير شؤون الناس استنادا إلى تلك
الأسس والتشريعات.
فهي من هذه الجهة مشابهة للقوانين الإجرائية التي تصدرها الحكومات، شرط أن لا تكون
مخالفة أو متعارضة مع الدستور العام الذي تقوم الدولة على أساسه.
وبعبارة أخرى، تمثل الأحكام المنصوص عليه، في القانون والتشريع الإسلامي، الكليات
والقواعد العامة، التي تحكم أي قانون أو تشريع يعمل الناس على إصداره، في ما يحفظ
مصلحة الفرد والجماعة، ولا يحق للإنسان أن يتدخل، أو يقارب هذه القواعد بغية
تغييره، أو التلاعب به، لأنها –بنظر الإسلام- تدخل للإنسان بما ليس له حق فيه.
وفي هذا السياق يمكن فهم التوافق بين جميع الأديان، في انتظار دولة آخر الزمان،
التي تقوم على أساس العدل الواقعي، كما يريده الله تعالى، وأعلنه جميع الأنبياء ^،
بمعنى أنهم بينوا عجز الإنسان عن مقاربة المسائل المرتبطة بالعدل المطلق، وقد أثبتت
التجارب الإنسانية على مر التاريخ صحة هذه المقولة.
فإن من الطبيعي أن تفهم هذه الدعوة، في سياق فهم موضوعة الحق والعدل، بمعنى اصابة
الواقع ومطابقته، على نحو لا يحصل فيه أي حيف أو ظلم على أي إنسان مهما صغر شأنه
بين الناس، بل لا يمكن فهم دعوات الأنبياء ^، فهما صحيحا إلا بهذه الصورة، وهو ما
تشير إليه الآية القرآنية الكريمة "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق"، أي
المصيب للواقع، والمحقق لمصلحة الإنسان فعلا.
وأما النظم الوضعية، على اختلاف مشاربها وانتماءاته، فتحاول أن تفصل مسائل الدين
عن واقع الحياة، وقد أشرنا في مقالة سابقة، أن منشأ ذلك هو الثورة الفرنسية،
والتمرد على سلطان الكنيسة، بعد انتشار الانجيل بين الناس، وثبوت أنه لا أساس ديني
لحاكمية الكنيسة، وقد ابتليت الإنسانية بكثير من المشاكل والمظالم، بعد سعي
المتسلطين إلى اقتحام كافة الميادين المرتبطة بأنظمة الحكم، ثم امتدت إلى مختلف
ميادين الحياة.
فكما أن القوانين والأحكام الإجرائية خاضعة لجعل الإنسان نفسه، بيده أمر وضعها
ورفعها، فكذلك الأمر بالنسبة إلى القواعد الكلية والأسس العامة للتشريع، بحسب هذه
الرؤية، ونتيجة لذلك تكثر الاختلافات بين المجتمعات، بل تكثر الانقلابات العسكرية
أو المدنية تبعا لاختلاف الثقافات أو المصالح، التي غالبا ما تكون بيد المتنفذين
والمتسلطين، الذين يمتلكون القدرة على التأثير في عامة الناس، ويدفعونهم للتمرد على
الواقع أو السلطة، التي لا تلبي طموحات الكبار، ولا تتوافق مع مصالحهم وأهوائهم.
وإذا نظرنا إلى أية منظومة فكرية في هذا العالم، تبحث عن موقع قيادي لها، نجدها
تطرح الكثير من الشعارات المتناغمة مع عواطف الجماهير، انطلاقا من رؤى متفاوتة، بل
متناقضة، ولكنها تتوافق جميعها في نفس الشعار المفترض. فمثلا لا نجد منظومة فكرية
إلا وتدعو الجماهير إلى الحرية، وتزعم أنها تلبي حاجات الناس، وتؤمن لهم مصالحهم،
على كافة الصعد والمستويات، وهو ما يظهر بوضوح عند أدنى ملاحظة لأي دولة من الدول،
أو لأي حزب من الأحزاب المتواجدة في الساحة، فتقوم حكومة على أنقاض أخرى، ويجري
تغيير دستور وتبديله بآخر، وهكذا إلى ما لا نهاية، فترى ما هو حق اليوم باطل غدا،
وما هو خلاص عند فئة خيانة وانحراف عند أخرى، دون أن تقف عند حد أو نهاية، وما كل
ذلك إلا لتشويش مسألة الحق في أذهان المتشرعين والزعماء أنفسهم، فضلا عن عامة الشعب
وضعاف الناس.
الحرية والحق:
وهكذا يظهر أن مفردة الحرية تتحدد
سعة وضيق، تبعا لحدود الحق المفترضة، بمعنى أن الإنسان حر في السلوك والتصرف، ضمن
دائرة ما أعطي له من حقوق.
والفارق بين الإسلام والأنظمة الوضعية، أن الحرية حق مقدس في الإسلام، فلا يجوز
الاعتداء عليه، بأي شكل من الأشكال، داخل المجتمع الإنساني كله، في أي زمان، أو
مكان، وإلى أي عرق أو جماعة انتمى، فقد لوحظ فيه إنسانية الإنسان، ومصلحة النوع كله، مما ينعكس إيجابا عليه، فله حاكمية واحدة عامة، يتبع الناس فيها شريعة واحدة، يصح
أن نطلق عليها اسم "عولمة إسلامية"، ملاكها إنسانية الإنسان وسعادته، في الدنيا
والآخرة، ويكون للجميع حق الاستفادة من خيرات الكون، كل حسب جهده وعمله، "هو الذي
جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور".
وأما في النظم الوضعية فلا توجد ضابطة كلية، يمكن أن يلجأ إليها ويستند عليه، في
تحقيق هذه المصلحة العامة. وأما المدركات العقلية فمحكومة، على الأغلب، للأهواء
والمصالح الخاصة، وهو ما يؤدي إلى تحزب الجماعات البشرية، تبعا لهذه الأهواء
والمصالح، فتتشكل الحدود والموانع في ما بينه، ويسيطر منطق الاستئثار والغلبة، وهكذا تنشأ الدول، وتشن الحروب، وتسفك الدماء، للسيطرة على ما يسمى "ثروات الآخرين"، وكل ذلك مبرر بالحق المزعوم لدى كل فئة قوية ومتسلطة، وقد تحمل عناوين براقة وجذابة، من قبيل العولمة التي تدعو إليها القوى الكبرى في هذه الأيام، وهي في حقيقتها عولمة
نهب ثروات الأمم من قبل القوى العظمى.
* سماحة الشيخ حاتم إسماعيل