بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد:
إن حركة شهود يهوه من أكثر الحركات إثارة للجدل، في الديانة المسيحية خلال القرنين
الأخيرين، سواء في الأوساط الكنسية والثقافية والسياسية، منذ نشأتها على يد تشارلز
تاز راسل عام 1874م، نظرا للخطر الذي تشكله على الكنيسة المسيحية من الناحية
العقائدية، وعدم الإحساس بالانتماء إلى أي وطن على الصعيد الاجتماعي، ومبالغتها في
دعم الحركة الصهيونية على المستوى السياسي.
ويعتبرها المسيحيون نتاجا طبيعيا لحركة الإصلاح الكنسي، الذي بدأه مارتن لوثر،
وانتهى بظهور الكنيسة البروتستانتية، التي تخالف كنيسة روما الرسمية، خصوصا لجهة
قراءة الكتاب المقدس، وترجمته وحق تفسيره لكل مسيحي، وإن لم ينتسب إلى سلك الكهنوت،
بعدما استأثرت الكنيسة بحق قراءته وفهمه، ومنعت الناس من تداوله وتفسيره, إلا من
قبل الكهنة أنفسهم.
مؤسس الحركة:
ولد تشارلز تاز راسل سنة 1852 في بلدة بتسبرغ من أعمال بنسلفانيا، إحدى الولايات
المتحدة الأميركية، ونشأ على العقيدة البروتستانتية، التي كانت تعتنقها عائلته،
المتحدرة من أصل إيكوسي- إيرلندي، وما لبث أن تمرد عليها، وهو في سن الرابعة
والعشرين، وعكف على قراءة الكتاب المقدس، محاولا فهمه بمعزل عن التفاسير الكهنوتية
الرسمية.
أطلق عليه أنصاره عدة ألقاب، تكشف عن مدى إعجابهم بأفكاره، وشدة انجذابهم إلى
شخصيته وآرائه، منها لقب " القس"، مع أنه لم يدخل في سلك الكهنوت أبدا، ومنها "مصلح
القرن العشرين الأكبر"، ومنها "المعلم الأعظم بعد بولس الرسول"1.
ادعى راسل النبوة، وزعم أن سنة1914 ستكون بداية حكم المسيح على الأرض، بعد عودته
الموعودة في الإنجيل، إلا أن هذه النبوءة لم تتحقق.
وادعى مرة أخرى أن سنة1918 ستكون سنة زوال البابوية وانقراضها، لكنه مات سنة1916
قبل أن يرى كذب نبوءته الأخرى2.
نشأة الحركة:
يبدو أن المحرك الأساسي لنشوء الحركة هو الاعتقاد بعودة المسيح×، الذي كان سائدا
بين أنصار السبتيين، الأمر الذي هز مشاعر راسل، حيث يقول: " هناك- أي في بتسبرغ-
ولأول مرة سمعت شيئا عن مجيء المسيح الثاني بواسطة جوناس ويندل"، فانطلق مؤيدا
الفكرة وداعما لها بقوة، حتى إذا فشل السبتيون في تحديد موعد عودة السيد المسيح×،
أخذ يصوغ هذه الفكرة صياغة جديدة ويدعو لها3.
وكان أول عمل قام به قراءة الكتاب المقدس بطريقة خاصة كما ذكرنا، وأطلق مع جماعته
على أنفسهم إسم "تلاميذ الكتاب المقدس"، وفي سنة1879 أنشأوا مجلة "برج المراقبة"،
ثم أقام جمعية برج المراقبة سنة1881 للترويج لأفكاره وكتاباته4، وفي سنة1931
استخدموا اسم "شهود يهوه"، الذي غلب عليهم، وعرفوا به، وهذا الاسم هو الوارد في
العهد القديم لله تعالى، وكانوا قد نقلوا مركزهم من مدينة بنسلفانيا إلى مدينة
نيويورك سنة19095.
الجذور التاريخية للحركة:
ذكرنا أن حركة الإصلاح الكنسي، التي بدأت مع مارتن لوثر(1483-1546)، قد أباحت قراءة
وتفسير وترجمة الكتاب المقدس، وكان لوثر نفسه قد ترجمه إلى اللغة الألمانية، متحديا
بذلك حظر الكنيسة الرسمية، وأخذ يدعو لاصلاح العقائد الكنسية، استنادا إلى نصوص
الكتاب المقدس نفسه.
من المعروف أن الكنيسة لم تعر أية أهمية لأسفار العهد القديم، إلا بمقدار ما
يستفيدون منه في نشر دعوتهم الخاصة بالسيد المسيح×، اعتقادا منهم أن السيد المسيح×
قد ألغى كل مفاعيله. ولكن لوثر لم يجد مثل هذا الإلغاء، في أي نصوص العهد الجديد،
بل إن سيرة السيد المسيح× تؤكد على الإلتزام به، وتحث على امتثال أوامره والإنتهاء
عن نواهيه، فكان أن أطلق مقولته بوجوب إعمال كل من العهدين، ليتبرر الإنسان ويدخل
ملكوت السماوات، خصوصا وهو يعلم أن الكنيسة لا تلتزم حرفية نصوص العهد الجديد في
دعوتها وطقوسها، بل تفسرها تفسيرات رمزية، تستند قبل كل شيء إلى عقول الكهنة، وما
تدعوهم إليه مصالحهم.
إن ما لا شك فيه، أن فتح باب الرمزية في تفسير النصوص المقدسة، يفقدها الكثير من
قداستها وتأثيرها في عامة الناس، لأنها تتحول إلى ألغاز تستعصي على الفهم، ويجعل
الناس أسرى لهؤلاء الكهنة، ومن يتمتعون بهذا الحق، وهذا الموضوع يحتاج إلى دراسة
مستقلة.
وقد كان لحركة الأنوار التي عمت أوروبا ابان القرن الثامن عشر، وخصوصا الثورة
الفرنسية، التي أنهت سلطان الكنيسة وموروثاتها، أثر هام في قبول الناس لحركة شهود
يهوه، وغيرها من الحركات الإصلاحية في الديانة المسيحية، بعدما تبين لهم أن نصوص
الكتاب المقدس، وخصوصا العهد الجديد، لا تحتوي على شيء من مزاعمها وأحكامها، التي
كانت تصدرها بحق مخالفيها، وتعد برجوع المسيح إلى الأرض.
هذا ما يمكن أن يعبر عنه، باختصار، بالجذور المباشرة لنشوء الحركة، إلا أن الجذور
التاريخية وغير المباشرة تمتد في عمق التاريخ، إلى زمن السيد المسيح× نفسه، حيث
ظهرت العقائد المختلفة والمتناقضة، في تفسير الدعوة المسيحية، وقد قوي سلطان بعضها
في مراحل تاريخية معينة، هددت وجود الكنيسة الرسمية وكيانها، خصوصا في القرون
الثلاثة الأولى.
والأمر اللافت في هذه المسألة، هو أن مجمل الطوائف، التي تخالف العقيدة الكنسية في
القرون الأولى للمسيحية، قد أبيدت، وأحرقت كتبها، ومنعت من التداول، وألقيت الحرم
على أنصارها، وقتلوا وشردوا ولم يصل إلينا من عقائدها وآرائها، إلا ما ذكره أتباع
الكنيسة، بغية الرد عليها وإبطالها.
وهذا ما يصعب الحكم على هذه الحركات سلبا أو إيجابا، إذ لا يمكن الاعتماد والوثوق
بنقل الخصوم لآرائهم، بموضوعية وحياد، خصوصا من الكنيسة، المليئة بالشواهد
التاريخية الدالة على بطشها وعدم تساهلها معهم.
إلا أنه رغم قلة ما نقل عنهم، وانحيازه ضدهم، يمكن أن يشكل أطرا معينة لفهمها، ولو
على نحو الإجمال، من خلال عرضها على نصوص الكتاب المقدس، ومحاكمتها على أساسه، رغم
ما فيه هو الآخر من تحريف وتلاعب بنصوصه، وهو ما لا ينكره أتباع الكنسية أنفسهم.
* سماحة الشيخ حاتم اسماعيل
1- موسوعة الأديان في
العالم، الإصلاح الديني المسيحي، ص190-191
2- نفسه، ص191-192
3- الرد المسيحي على عقائد شهود يهوه، القس فريد خوري،ص13
4- موسوعة الأديان في العالم، الإصلاح الديني المسيحي، ص191
5- موسوعة الأديان الميسرة، ص319-320