بسم الله الرحمن الرحيم
إن البحث والتأمل في أسرار الكون، قد رافق مسيرة الإنسان منذ نشأته على هذه الأرض،
وذلك بما زوده الله تعالى به من العقل، وفطره على التفكير، والتأمل في كل ما يواجهه
من أحداث وغرائب في هذا الوجود، محاولا كشف مجهولاته، وتسخير طاقاته وقدراته، في
سبيل تحقيق سعادته على مختلف المستويات، وبذلك تنشأ الحضارات وتعمر الأرض..
ان معنى الفلسفة كان ملازما لمعنى المعرفة، ولهذا كان مفهوم الفلسفة شاملا لجميع
فروع المعرفة، من علوم طبيعية، ورياضية، وسياسية، وفلكية، وغيرها.
والانسان منذ بدايات وجوده، واجهته الكثير من المشاكل في مسيرة حياته، فكان لا بد
ان يبحث عن حلول لهذه المشاكل، بغية السيطرة على الكون، وكشف مجاهيله، وبالتالي
تحقيق سعادته المرجوة.
وهذا يعني ان التفكير الفلسفي قد نشأ مع نشأة الإنسان على هذه الأرض، ولا معنى
للقول ان التأمل الفلسفي حكر على أمة من الأمم، او حضارة من الحضارات، لأن من
الظاهر ان أية حضارة لا يمكن ان تنهض وتقوم الا بمواجهة المشاكل، ومحاولة ايجاد
الحلول المناسبة لها، من خلال التأمل في عالم الوجود، ودراسة الكائنات التي يتألف
منها، بمختلف أبعاده.
إلا أن الباحثين في تاريخ الفلسفة قد تسالموا على أن نشأة التفكير الفلسفي قد بدأت
في بلاد اليونان، بين أوائل القرن السادس والنصف الأخير من القرن الخامس قبل
الميلاد، وهي الفترة المصطلح عليها باسم " الفلاسفة قبل سقراط"، ابتداء بطاليس
وانتهاء بديمقريطس1..
وقد بلغ التفكير الفلسفي ذروته وأوجه مع الأعلام الثلاثة سقراط وأفلاطون وأرسطو، في
تلك البلاد أيضاً، ومن تلك البلاد أخذت الفلسفة في الانتقال إلى سائر الأمم
والحضارات..
فتسربت إلى بابل أفكار يونانية منذ أيام الإسكندر الكبير2..
وأما بلاد فارس فقد انتقلت إليها الفلسفة اليونانية عبر السريان الذين أخذوا
الثقافة اليونانية من الإسكندرية وإنطاكية، ونشروها في الشرق وحملوها إلى الرها
ونصيبين وحران وجنديسابور3..
ويخلص دي بور إلى القول بأنه لم يكن باستطاعة الشرقيين قط أن يصلوا إلى أثمن ما
خلفه لنا العقل اليوناني في الفن والشعر وكتابة التاريخ، بل ربما كان عسيراً عليهم
أن يفهموه لما كان يعوزهم من الإلمام بحياة اليونان، ولأنهم لم يكونوا متهيئين
لتذوق هذه الحياة4..
هذا بالنسبة إلى بدايات التفكير الفلسفي، وأما التفكير الفلسفي في الإسلام فيذكرون
أنه ابتدأ مع حركة نقل الكتب اليونانية إلى اللغة العربية أوائل القرن السابع
الميلادي ( أواخر القرن الأول الهجري)، وإن أول نقل لآثار اليونان كان بفضل الأمير
الأموي خالد بن يزيد بن معاوية الملقب" بحكيم آل مروان " الذي أمر بنقل بعض الكتب
اليونانية إلى العربية5..
وأما الأسباب الباعثة على النقل فقد لخصها الدكتور جورج صليبا بما يلي:
1- احتكاك العرب بغيرهم من الأمم، وإدراكهم أن لديها علوماً يحسن الاستفادة منها..
2- احتياج العرب إلى هذه العلوم في تنظيم شؤون حياتهم..
3- تشوق العرب إلى المعرفة بما فطرهم الله عليه من حب الاستطلاع، وإيمانهم بدين
سماوي يحثهم على طلب العلم، ويطلب منهم الجمع بين مصالح الدنيا ومصالح الآخرة..
4- حاجة العرب إلى الذود عن حياض الدين بالحجج المنطقية6..
و زاد عبده الشمالي على هذه الأسباب تنظيم مالية الدولة، و شخصية المأمون الثقافية
المنفتحة7..
هذا ما تسالم عليه الباحثون في تاريخ الفلسفة، إلا أن كلا الأمرين موضع شك، بل إننا
نميل إلى الاعتقاد الجازم أن جذور الفلسفة ترجع في أصولها ومبادئها إلى دعوات
الأنبياء والوحي الإلهي..
و لا يعني هذا الكلام تعصباً أو انحيازاً في التفكير الإيماني، في مقابل إمكانية
البحث العقلي والتفكير التأملي في الوجود، وإنما يهدف إلى إثارة فضول العقل وحثه
على البحث والتأمل، بعد تزوده بالفطرة التي فطره الله عليها باتجاه البحث عن
المجهول، قد نشأت من خلال دعوات الأنبياء إلى ذلك.
وكذلك الحال، بالنسبة لتاريخ الفلسفة في الإسلام، فإننا ندعي أنها كانت ملازمة
للوحي الإلهي، وليس كما ادعاه مؤرخو الفلسفة..
* سماحة الشيخ حاتم اسماعيل
1- الموسوعة الفلسفية
المختصرة ص 304 ترجمة فؤاد كامل ورفاقه .
2- تاريخ الفلسفة في الإسلام ص25 .
3- نفس المصدر ص 29 .
4- تاريخ الفلسفة في الإسلام ص 45 .
5- تاريخ الفلسفة العربية ص 96 .
6- نفس المصدر ص108 .
7- دراسات في تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية ص 156.