بسم الله الرحمن الرحيم
إن بدايات التفكير الفلسفي في اليونان، تعود إلى ما بين أوائل القرن السادس ق. م.
ابتداء بطاليس وبين النصف الأخير من القرن الخامس ق. م. مع ديمقريطس، وقد برز في
هذه الفترة ما يقرب من اثني عشر مفكراً أطلق عليهم مصطلح " الفلاسفة قبل سقراط
[1]"..
فلا بد من التعرف على أشهر أعلام هذا العصر وأهمهم بإيجاز، بالإضافة إلى محاولة
الإطلاع على خلفياتهم الثقافية، فنقول:
لقد كان اليونانيون في تلك الفترة يعيشون في رخاء مادي، وعلى اتصال وثيق، عن طريق
التجارة، بالثقافات الأجنبية في مصر وليديا وبالتالي في بابل[2]..
وزار مصر كثير من عظمائهم المشهورين من أمثال طاليس وفيثاغورس وصولون وديمقريطس
وأفلاطون، فأعجبوا أشد إعجاب بعظم حضارتهما وقدمها، ولقد قال أحد كهنتها لصولون،
إنكم أيها اليونانيون لا تزالون أطفالاً[3]، في إشارة إلى مدى عمق حضارة المصريين
وتحقيره اليونانيين..
فطاليس، وهو من أبوين فينيقيين، تلقى معظم علومه في مصر والشرق الأدنى [4]، وفي مصر
تعلم الهندسة النظرية [5]..
إن كونه من أبوين فينيقيين يعني، أنه متحدر من أصول شرقية، الأمر الذي يدحض مقولة
دي بور المتقدمة، بل وسائر أقوال المستشرقين، الذين يرون أن عقل الشرقي قاصر عن
معالجة المشاكل الطارئة، إلا من خلال الاندماج الإيجابي مع الطبيعة والتسليم لها،
بخلاف الغربي الذي يتمتع بقوة البحث والتأمل، في محاولة السيطرة على الطبيعة
وتسخيرها، حتى ان قلنا ان اليونانيين ليسوا من أصول شرقية، وان كانت هذه الفرضية لا
تنسجم مع الرؤية الإسلامية القائلة بأن الجنس البشري كله راجع إلى آدم (ع)، وأنه
ليس للعرق والعنصر أية خصوصية على غيره من الناس، كما نصت عليه الآية القرآنية
المباركة: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا
إن أكرمكم عند الله اتقاكم[6]".
كما أن الكتاب المقدس يتوافق مع القرآن الكريم في أصل الخلق وأنه من نفس واحدة،
ولكنه يميز بينهم على أساس العرق، فالقول بوجود عقل شرقي وعقل غربي يخالف العقائد
اليهودية والمسيحية، كما يخالف العقيدة الإسلامية، ولا يدعمه أي دليل تاريخي أو
علمي.
وذكر الشهرستاني أنه قيل: إن أول من شهر بالفلسفة، ونسبت إليه الحكمة، هو فلوطرخيس،
وقد تفلسف بمصر[7]..
وأما فيثاغورس فقد زار بلاد العرب وسوريا وفينيقيا وكليديا والهند وغالة، وعاد يلقي
حكمة عالية جديرة بالإعجاب، على حد تعبير ديورانت[8]..
وذكر القفطي والشهرستاني أنه أخذ الحكمة عن أصحاب سليمان (ع) بمصر، وفيها تعلم
الهندسة أيضاً[9]..
ومعلوم أن أرسطو قد أخذ الحكمة عن أفلاطون، الذي أخذها بدوره عن سقراط، وسقراط
أخذها عن فيثاغورس..
وقبل فيثاغورس كان أمباذوقليس. ذكر القفطي أنه قيل إنه كان أقدم الفلاسفة زماناً،
وقد تعلم الحكمة من لقمان الحكيم[10]، كما مضى إلى داود (ع) وتعلم منه العلم[11]..
وسواء كان أول من تفلسف فلوطرخيس كما يقول الشهرستاني، أو أمباذوقليس كما قال
القفطي، أو طاليس كما قال محرر الموسوعة الفلسفية المختصرة، فلا يختلف الحال في
منشأ الفلسفة، لأنهم قد أخذوا جميعاً الحكمة في المشرق، مهد النبوات، إما من داود
ولقمان وسليمان مباشرة أو بالواسطة..
وقد اعترف إميل برهييه بحقيقة الأصول الشرقية للفكر الفلسفي، حيث قال بعد ذكره
للاتصال والتماس بين الاغريق وبين حضارات مصر وحضارة بلاد ما بين النهرين: "وإنه
لمن المتعذر أن ينكر المرء صلة القرابة الفكرية بين الدعوى المعروفة التي قال بها
أول فيلسوف اغريقي، طاليس، والتي أرجعت أصل كل شيء إلى الماء، وبين مطلع قصيدة
الخلق التي نظمت قبل ذلك بقرون عديدة في بلاد ما بين النهرين: (يوم لم تكن السماء
في الاعالي قد سميت بعد، ويوم لم يكن للأرض في الأداني من اسم، من آبسو الأولي،
أبيهم، ومن تيامات الصاخبة، أمهم جميعا، امتزجت الماء في واحد). وتكفي نصوص كهذه عن
أية حال لتبين أن طاليس لم يكن مبتدع نظرية مبتكرة في نشأة الكون، فالصور النشكونية
(نسبة لنظرية نشأة الكون) التي ربما جاز القول بأنه أوضحها وجلاها كانت موجودة منذ
عهود عديدة. ولنا أن نرهص بأن فلسفة الطبيعيين الأيونيين الأوائل ربما كانت شكلا
جديدا من تصورات سحيقة القدم.
* سماحة الشيخ حاتم اسماعيل - بتصرف
[1] الموسوعة
الفلسفية المختصرة ص 304.
[2] الموسوعة الفلسفية المختصرة ص 304.
[3] قصة الحضارة ج 6 ص 130.
[4] المصدر نفسه ج6 ص250.
[5] نفسه ج6 ص130.
[6] سورة الحجرات, آية:
[7] الملل والنحل ج2 ص96.
[8] قصة الحضارة ج6 ص293.
[9] أخبار الحكماء ص170، والملل والنحل ج2 ص74.
[10] أخبار الحكماء ص12 –13.
[11] الملل والنحل ج2 ص68.