بسم الله الرحمن الرحيم
يمكن القول، على العموم، ان حركة الفكر الفلسفي ملازمة لبعث النبوات، منذ فجر
التاريخ، لأن دعوات الأنبياء عليهم السلام، تنطلق في أساسها، من ربط الانسان بالله
تعالى، الذي يشكل محور الوجود، ومركزه، وحقيقته، ونتيجة ذلك الربط، هي تحقيق سعادة
الانسان، على المستوى الفردي والجماعي، سواء في تسخير قوى الطبيعة لمصلحته، كما
نلاحظ ذلك في دعوة نوح عليه السلام قومه، حيث ربط وفرة الرزق، وكثرة الاموال
والاولاد بالعلاقة مع الله تعالى، او على مستوى اصلاح النظام الاجتماعي العام، من
خلال دعوة انبياء آخرين للوفاء بالمكيال والميزان، او الرحمة لعباد الله، وتحقيق
الوحدة والالفة بينهم، وصولا الى تحقيق العدل في الحكم بين الناس، الذي جعل غاية
بعث الانبياء في أكثر من آية في القرآن الكريم.
إن دعوات الأنبياء (ع)، وإن كانت في جوهرها وحقيقتها تهدف إلى ربط الانسان بالمبدأ
الأعلى سبحانه وتعالى، والتسليم له على كافة الصعد والمستويات، إلا أن ذلك من خلال
مخاطبة العقل، وتنبيهه، وإيقاظ فطرته، وتوجيهه للعمل وفق ما تقتضيه الفطرة وأحكام
العقل السليمة، ليضمن له تحقيق السعادة، سواء على المستوى الدنيوي والأخروي، وليست
دعوة لمجرد التسليم الساذج، وغير الناشئ عن العلم والمعرفة، ولقد حصر القرآن الكريم
حقيقة الخشية منه تعالى بالعلماء، حين قال: "انما يخشى الله من عباده العلماء"، كما
ورد في الحديث الشريف: "تفكر ساعة خير من عبادة سنة".
كما ان مسألة المعاد، والخلود في القيامة، من أهم المسائل التي تثير فضول الذهن
البشري، في البحث والتنقيب، حول الرابطة الوجودية لدى الانسان في هذه الحياة وبعد
الموت، وهي على تماس مباشر مع المشكلة التي واجهها الإنسان وأرقت حياته على الدوام،
وتترتب عليها الكثير من الآثار والمواقف العملية، التي لا بد وأن يقفها المرء
انسجاما مع طريقة حله لها، وهي مشكلة الموت، وهل هي نهاية الحياة، أم نهاية مرحلة
في الحياة.
ومن نافلة القول ان الأديان على العموم قد أولت هذه المسألة أهمية فائقة، لما تشتمل
عليه من تصحيح للسلوك البشري، بحيث يعمل على تحقيق الانسجام والاستقرار النفسي،
وتحسين الأخلاق وسواها من تدبير شؤون الذات والعائلة والمجتمع، وهو أسمى غايات
الفلسفة في بعدها العملي.
بل ان معجزات الانبياء التي كانوا يسوقونها، لإقناع الناس بصدق دعواتهم، تشكل أهم
الحوافز للبحث والتأمل في عالم الموجودات، إذ ليس المراد منها مجرد افحام الخصوم
وإسكاتهم، من دون أن يكون ذلك محركا لأذهانهم، لكي تحاول استشراف القوى الموجودة
فيه ومحاولة الاستفادة منها في مسيرة الحياة، إذ من الواضح أن ما يتعلق بالجانب
التكويني من المعجزة سيدفع بالذهن البشري إلى التأمل والبحث، لما فيها من مخالفة
للمسلمات التي كان يألفها هذا الإنسان ويتفاعل معها، ما دامت هذه المعجزة داخلة في
حيز الامكان، وهذا ما يشكل دافعا مهما للانطلاق في محاولة تنفيذ مفاعيلها، وإخراجها
من عالم الامكان إلى عالم الوقوع بوسائل علمية، ولو بعد حين من الزمن.
وبعبارة أخرى، إن وظيفة المعجزة تحريك الذهن البشري ودفعه إلى التأمل، وهو أول
خطوات التفكير الفلسفي المبتني على الاندهاش، ثم محاولة تمثلها والاستفادة منها.
وليست وظيفتها مجرد التعجيز وافحام الخصم، لأن هذا النوع من التحدي يتنافى مع مهمة
الأنبياء ووظيفتهم "ويعلمهم الكتاب والحكمة"، لما فيها من استقواء على أقوامهم، وهو
ما تجل ساحة الأنبياء عنه. وتفصيل الكلام في هذه المسألة له مقام آخر.
ولهذا نلاحظ ان جميع الانبياء (ع) كانوا ينطلقون في دعواتهم الى الله تعالى، من
خلال ارجاع الانسان الى مسلماته الاولية، ومرتكزاته الفطرية، في البناء المعرفي،
المرتبط بكل الوجود، إذ لولا وجود هذه الاوليات لانهارت جميع المعارف، ولانسد باب
الوصول الى أية حقيقة من الحقائق.
ولا يفوتنا هنا، ان نذكر ان البحث الفلسفي، في بعض جوانبه، عبارة عن سعي دائم
ومستمر باتجاه الحقيقة، وهي محاولة لتأسيس نظام عقلي لعالم الوجود يندمج ويتماهى مع
عالم الواقع المحسوس.
الا ان ما تقدم لا يعني ان الانبياء كانوا فلاسفة، كما ربما ينسبق الى بعض الاذهان،
فإن دعوة الانبياء دعوة عامة، متوجهة الى كل افراد النوع الانساني، من شأنها ان
تربطهم جميعا بالمبدأ الأعلى، وتحقيق سعادتهم جميعا، من دون فرق بين عالم وفيلسوف
وغيرهما، ولذلك فهي متوجهة الى جميع الفئات، ما يقتضي ان يفهمها كل فرد بحسب ما
أوتي من قوة عقل وموهبة، وتكون فيها الحجة على كل فرد بحسبه.
ولازم ذلك ان يتعامل معها الناس كل حسب مؤهلاته وقدراته، ويمكنه ان يدرك من حقائقها،
ما يشبع كل حاجاته، ويلبي سائر طموحاته.
ولهذا كان من اهم وظائف الانبياء (ع) ما ذكره تعالى بقوله: "ويعلمهم الكتاب والحكمة"،
حيث قرن تعالى بينهما على نحو جعلهما معا وظيفة الانبياء، كأن كلا منهما عدل للآخر،
ولا منافسة او معارضة بينهما، بل اكمال احدهما لا يكون الا بتحصيل الآخر معه.
وهذا بخلاف الفلسفة بالمعنى الاصطلاحي، فهي ليست متوجهة الا الى نخبة المجتمعات،
ولهذا لم يكن جميع الناس قادرين على ادراك معانيها، وتصور حقائقها، وفهم أبحاثها.
ومع ذلك فإننا نرى المذاهب الفلسفية قد بلغت حدا يزيد على الحصر، بل يمكن القول على
العموم، أن لكل فيلسوف مملكته الخاصة به، يتربع على عرشها، ويفترضها الحقيقة
المطلقة، التي يجب على الآخرين أن يتابعوه عليها، وهذا ما دعى بعض الفلاسفة إلى
القول بنسبية الحقيقة، وهذا يقارب إلى حد ما مقولة السفسطائيين، مع أنه مصادم
للبديهة التي يدركها حتى أبسط الناس.
وهذا لا يعني انكار الخلاقية والابداع لدى هؤلاء الأعلام، بل لهم فضل كبير على تطور
الفلسفة عبر التاريخ، بما كانوا يمتلكون من قدرات عقلية، وذهنيات وقادة، ونتيجة
حرصهم الشديد، استطاع التفكير الفلسفي أن يخطو خطوات جبارة في الحضارات الإنسانية.
والذي يدلنا على أن الفلسفة نبوية المنشأ، شرقية المنبت، أن علماء اليونان أمثال
هيرودوت وفلوطرخيس كانوا يقولون بأن الخلق يحاسبون بعد موتهم على ما قدموا من خير
وشر في حياتهم، في بلد كانت تملؤه الوثنية، فقد كان في هياكلهم 345 تمثالاً لكبار
الكهنة[1]، وقد كان حكم على سقراط بالموت بتهمة انه يفسد الشبان، ولا يعتقد بآلهة
المدينة[2]، مما يؤكد أنهم قد أخذوا هذه الفكرة من الأنبياء عليهم السلام، وليست
ابداعاً عقلياً محضاً..
كما أن قول طاليس بأن جميع الأشياء قد صدرت من الماء هو ما فهمه من قول نبوي أيضاً
كما سنرى، وإن قال البعض بأنه يقدم تعبيراً عقلياً عن فكرة مصرية اسطورية، وهي فكرة
لها ما يشابهها أيضاً في بابل[3]، وذكرنا كلام برهييه في هذا المجال.
وكذلك قوله أن فوق السماء عوالم مبدعة ولا يقدر المنطق أن يصف تلك الأنوار، ولا
يقدر العقل أن يقف على إدراك ذلك الحسن والبهاء، وهي مبدعة من عنصر لا يدرك غوره
ولا يبصر نوره، والنطق والنفس والطبيـعة تحته ودونـه[4]..
وقول فيثاغورس، وهو تلميذ سليمان (ع) أو تلميذ أصحابه _ إن الباري تعالى لا كالآحاد
ولا يدخل في العدد، ولا يدرك من جهة العقل، فلا الفكر العقلي يدركه، ولا المنطق
النفسي يصفه، فهو فوق الصفات الروحانية، غير مدرك من جهة ذاته، وإنما يدرك
بآثاره[5]..
وحتى أفلاطون نفسه، قد بقي فترة من الوقت في فلسطين، وانعجن في طينة الأنبياء، على
حد تعبير البعض، ودرس على فلاسفة مصر، كما يظهر، وتعلم التفكير والتأمل من الهندوس
خلال رحلته التي استمرت اثني عشر عاماً قبل أن يرجع ليدرس في المدرسة الفيثاغورية
على يد سقراط 28..
ولكن برهييه قال بأنه سافر إلى مصر بعد موت سقراط بتسعة أعوام، يقول برهييه: "قال
برهييه بعد موت سقراط بأعوام تسعة شرع أفلاطون بسفرته الكبرى الأولى، فقصد بادئ
الأمر مصر التي كان يكن لها إعجابا لماضيها الجدير بكل تقدير، ولاستقرارها السياسي
الأمثل[6]".
ونلاحظ أن هذا الإعجاب لا مبرر له إلا أن يكون نجم مصر قد تألق بعيدا حتى نال إعجاب
أفلاطون لو لم يكن قد رآها من قبل فعلا.
وأما لقمان الحكيم فقد نزل فيه قرآن يتلى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، قال
تعالى: ولقد آتينا لقمان الحكمة، وسورة لقمان مليئة حكمة وموعظة..
وقد ورد عن رسول الله (ص) أنه قال: لم يكن لقمان نبياً، ولكن كان عبداً كثير التفكر
حسن اليقين أحب الله فأحبه ومن معه ومن عليه بالحكمة [7]..
ويهمنا هنا أن نشير إلى أن فكرة وحدة العناصر وأن الماء أصلها، قد أخذها طاليس من
معدن النبوة في مصر وبابل بعدما ذهب إليهما، وهي فكرة نبوية، رغم عدم تصريح مؤرخي
الفلسفة بذلك، وليست فكرة أسطورية كما ادعاه محرر الموسوعة الفلسفية المختصرة،
فماذا عن مصر وبابل..
سماحة الشيخ حاتم اسماعيل – بتصرف يسير
[1] قصة الحضارة ج6
ص130.
[2] الموسوعة الفلسفية المختصرة ص53
[3] الموسوعة الفلسفية المختصرة ص305.
[4] الملل والنحل ج2 ص74.
[5] الملل والنحل ج2 ص63
[6] الفلسفة اليونانية ص130
[7] تفسير الميزان ج 16 ص 221.