بسم الله الرحمن الرحيم
قـد يجد الملاحظ - وهو يفتش الادوار المختلفة لقصة الحضارة على مسرح التاريخ - ان
المشاكل مـتـنـوعـة والهموم متباينة في صيغها المطروحة في الحياة اليومية، ولكننا
اذا تجاوزنا هذه الصيغ ونـفـذنـا الـى عـمـق المشكلة وجوهرها استطعنا ان نحصل من
خلال كثير من تلك الصيغ اليومية الـمتنوعة على مشكلة رئيسية ثابتة ذات حدين او
قطبين، متقابلين، يعاني الانسان منهما في تحركه الحضاري على مر التاريخ، وهي من
زاوية تعبر عن مشكلة: الضياع واللاانتماء، وهذا يمثل الجانب السلبي من المشكلة، ومن
زاوية اخرى تعبر عن مشكلة الغلو في الانتماء والانتساب بتحويل الحقائق الـنـسـبية
التي ينتمي اليها الى مطلق، وهذا يمثل الجانب الايجابي من المشكلة. وقد اطلقت
الشريعة الـخاتمة على المشكلة الاولى اسم: الالحاد، باعتباره المثل الواضح لها،
وعلى المشكلة الثانية اسم: الوثنية والشرك، باعتباره المثل الواضح لها ايضا، ونضال
الاسلام المستمر ضد الالحاد والشرك هو في حقيقته الحضارية نضال ضد المشكلتين بكامل
بعديهما التاريخيين.
وتـلتقي المشكلتان في نقطة واحدة اساسية، وهي: اعاقة حركة الانسان في تطوره عن
الاستمرار الخلاق المبدع الصالح، لان مشكلة الضياع تعني بالنسبة الى الانسان انه
صيرورة مستمرة تائهة، لا تـنـتمي الى مطلق، يسند اليه الانسان نفسه في مسيرته
الشاقة الطويلة المدى، ويستمد من اطلاقه وشـمـولـه الـعون والمد والرؤية الواضحة
للهدف، ويربط من خلال ذلك المطلق حركته بالكون، بـالوجود كله، بالازل والابد، ويحدد
موقعه منه وعلاقته بالاطار الكوني الشامل. فالتحرك الضائع بدون مطلق تحرك عشوائي
كريشة في مهب الريح، تنفعل بالعوامل من حولها ولا تؤثر فيها، وما من ابـداع وعـطـاء
فـي مـسيرة الانسان الكبرى على مر التاريخ الا وهو مرتبط بالاستناد الى مطلق،
والالتحام معه في سير هادف.
غـير ان هذا الارتباط نفسه يوجه من ناحية اخرى الجانب الاخر من المشكلة، اي مشكلة
الغلو في الانتماء بتحويل النسبي الى مطلق، وهي مشكلة تواجه الانسان باستمرار، اذ
ينسج ولاءه لقضية لكي يـمـده هذا الولاء بالقدرة على الحركة ومواصلة السير، الا ان
هذا الولاء يتجمد بالتدريج ويتجرد عـن ظروفه النسبية التي كان صحيحا ضمنها، وينتزع
الذهن البشري منه مطلقا لا حد له، ولا حد لـلاسـتـجـابـة الى مطالبه، وبالتعبير
الديني يتحول الى اله يعبد بدلا عن حاجة يستجاب لاشباعها.
وحـيـنـمـا يـتـحول النسبي الى مطلق الى اله من هذا القبيل يصبح سببا في تطويق حركة
الانسان، وتـجـمـيـد قـدراتـها على التطور والابداع، واقعاد الانسان عن ممارسة دوره
الطبيعي المفتوح في المسيرة: (لا تجعل مع اللّه الها آخر فتقعد مذموما
مخذولا).الاسراء: 22.
وهذه حقيقة صادقة على كل الالهة التي صنعها الانسان عبر التاريخ سواء كان قد صنعه
في المرحلة الـوثـنـية من العبادة، او في المراحل التالية، فمن القبيلة الى العلم
نجد سلسلة من الالهة التي اعاقت الانسان بتاليهها، والتعامل معها كمطلق عن التقدم
الصالح.
نـعـم من القبيلة التي كان الانسان البدوي يمنحها ولاءه باعتبارها حاجة واقعية بحكم
ظروف حياته الخاصة، ثم غلا في ذلك، فتحولت لديه الى مطلق لا يبصر شيئا الا من
خلالها، واصبحت بذلك معيقة له عن التقدم.
الـى الـعـلم الذي منحه الانسان الحديث بحق ـ ولاءه، لانه شق له طريق السيطرة على
الطبيعة، ولـكـنـه غلا احيانا في هذا الولاء فتحول الى ولاء مطلق، تجاوز به حدوده
في خضم الافتتان به، وانتزع الانسان المفتون بالعلم منه مطلقا يعبده، ويقدم له فروض
الطاعة والولاء، ويرفض من اجله كل القيم والحقائق التي لا يمكن قياسها بالامتار
اورؤيتها بالمجهر.
فـكل محدود ونسبي اذا نسج الانسان منه في مرحلة ما مطلقا يربط به على هذاالاساس،
يصبح في مرحلة رشد ذهني جديد قيدا على الذهن الذي صنعه بحكم كونه محدودا ونسبيا.
فـلابـد لـلـمسيرة الانسانية من مطلق، ولابد ان يكون مطلقا حقيقيا، يستطيع ان
يستوعب المسيرة الانسانية ويهديها سواء السبيل مهما تقدمت وامتدت على خطها الطويل،
ويمحو من طريقها كل الالهة الذين يطوقون المسيرة ويعيقونها.
وبهذا تعالج المشكلة بقطبيها معا.
آية اللّه الشهيد السيد محمد باقر الصدر