يمكن الحديث عن ثلاث مراحل تم خلالها دخول العلمانية إلى إيران:
1 ـ ظهور العلمانية في إيران:
يعود نفوذ الفكر العلماني إلى إيران ـ ولو بأشكاله الضعيفة ـ إلى أواخر العصر
الصفوي وبداية العصر القاجاري.
يعتبر التقليد في الفنون الطريق الأول لنفوذ الحضارة الغربية إلى إيران وذلك في
العصر الصفوي. وكان ملوك الصفوية يطلبون من ملوك أوروبا ارسال أصحاب الصنائع
والفنون والتجار والأساتذة إلى إيران حيث لعب هؤلاء دوراً في رواج العادات والآداب
الغربية في إيران. وكان الملوك يعشقون ويرغبون في تزيين حياتهم الدنيوية بالآثار
الفنية والصناعية الغربية. وبهذه الطريقة ازدادت عملية نفوذ الثقافة الغربية في
إيران وقد وصل الأمر في بعض الحالات إلى وجود حالات زواج متبادل بين الجهتين.
أما أول مجموعة من طلاب الإيرانيين الذين أرسلوا إلى الغرب فكان في زمان الشاه عباس
الصفوي. ولكن وبدل أن يعمل الطلاب على تحصيل العلم فقد اشتغلوا بالملذات
والمفاسد[1].
وصول التغرب في المرحلة القاجارية إلى الأوج:
ازداد تعرف الإيرانيين على الغرب في العصر القاجاري. أصبح المسافرون الإيرانيون
في هذه المرحلة يتحدثون حول التحولات الموجودة في الممالك الأوروبية وقد دونوا
العديد من الكتب في هذا الاطار، من جملة ذلك:
1 ـ كتب عبد اللطيف الشوشتري وهو من علماء إيران الذين سكنوا الهند، كتاباً يحمل
عنوان "تحفة العالم" تحدث فيه حول قضايا جديدة من أبرزها المؤسسات الجديدة، الحرية
السياسية، العلم الجديد، اصلاح الدين، محدودية سلطة أصحاب الكنيسة وتأسيس المجالس
التشريعية واحلال الديمقراطية[2].
2 ـ التحق الميرزا أبو الحسن خان ايلتشي وهو من أتباع بلاط الشاه فتحعلى شاه
بالغربيين حيث كان شديد الحيرة والتعجب مما أفرزته الحضارة الغربية، فتبدلت حياته
نحو الليبرالية. عاش مدة سنة ونصف في بريطانيا قدم خلالها العديد من الخطط التي
تتلاءم مع الحضارة الجديدة، وكان شديد الاعجاب بالحرية والعلاقات الجنسية
اللامحدودة بين المرأة والرجل والتي كانت رائجة في الغرب. والمعروف أن المدة التي
أمضاها في أوروبا كانت حافلة بنشاطاته التجسسية والفاسدة[3].
3 ـ دخلت الثقافة الغربية إيران بشكل كبير على أثر الحرب بين إيران وروسيا حيث أضحت
إيران بحاجة إلى التكنولوجيا الجديدة. كان عباس ميرزا شديد الاعجاب بالتقدم
العسكري الغربي لذلك بدأ ارسال الطلاب إلى الغرب. برز في هذه المرحلة مجموعة من
الطلاب من أبرزهم: الميرزا صالح الشيرازي وحسينعلى الاغا.
وبعد عودة الطلاب الإيرانيين من الغرب كانوا يواجهون الثقافة الإسلامية بروح العداء
والتحقير لا بل كانوا يروجون للعادات والآداب والثقافة الغربية. وفي هذه المرحلة
بدأ هؤلاء يروجون لفكرة الفصل بين الدين والسياسة.
4 ـ هناك مجموعة أخرى من الأفراد الذين لعبوا دوراً بارزاً في الترويج للعلمانية
والليبرالية في إيران ومن أبرزهم: الميرزا ملكم خان ـ ناظم الدولة، الميرزا فتحعلى
آخوند زاده، الميرزا عبد الرحيم طالبون والميرزا الاغا خان الكرماني. وقد أصبح
هؤلاء من قادة ترويج الفكر الغربي في إيران.
تعود جذور الفكر الغربي الذي راج في إيران إلى ثلاثة أصول:
ألف ـ احالة الإنسان (اومانيسم) ويتفرع عنها الحرية والمساواة.
ب ـ عدم الاعتقاد الواقعي بالدين. والمعروف أنهم كانوا يرضون بفكرة عبادة الله من
دون الاعتقاد بالوحي والشريعة. وكانوا بناءً على فكرهم الجديد يعتبرون أنفسهم
أحراراً في اختيار الدين ولكن من دون أن يؤدي ذلك إلى الإيمان بالوحي والشريعة
السماويين.
ج ـ عدم الإيمان بالوطن أو الإيمان بالوطن الكوني وهي من جملة العقائد البارزة
لديهم، لأن أساس هؤلاء لا يجب أن يتعلقوا بوطن خاص بل كانوا يعتبرون أنفسهم متعلقين
بالكون والقيم الغربية وكانوا يصرون على انضواء الدول كلها تحت لواء الامبراطورية
البريطانية في ذلك الزمان[4].
أشرنا فيما تقدم إلى أن الاباحية والأصالة الإنسانية من جملة عقائد الفكر العلماني
أي الليبرالية؛ وتشكل هذه الأمور أهم أساسيات الفكر التغربي الذي شاع في إيران.
ـ يعتبر ملكم خان من مؤسسي التيار التنويري في إيران وهو من أوائل الذين عملوا على
ترويج القيم والأفكار الغربية. كان هذا الشخص غير متدين ولا يؤمن بالمذهب مع أن
لباسه كان لباس العلماء، وكان يقدم نفسه تارة على أنه مسلم وتارة أخرى على أنه
أرمني...
ترافقت سيرته الغربية مع صفات أخلاقية مذمومة فكان يعرف ببعض الصفات: عديم
الإيمان، لا وطن له، الطماع، طالب السلطة والمال، المحتال والمتقلب....[5].
أما أفكار ملكم خان الليبرالية والعلمانية فتتمحور حول عدد من النقاط من أبرزها:
الترويج للفكر الغربي، التعليم والتربية العرفيان، عدم الاعتقاد بقيمية الحياة
القديمة في العالم المعاصر، أصالة الإنسان، اعطاء الحريات السياسية والاقتصادية
والثقافية بالأسلوب الغربي، الترويج للعلوم والمعارف الجديدة. وكان يعتقد أن على
المراجع التبعية لوزارة التعليم والتربية. وكان يؤمن بضرورة الفصل بين التربية
الدينية وغير الدينية (فصل الدين عن السياسة) ومع كل هذا الذي تقدم فلم يصرح علناً
بتعارض العلوم الجديدة مع معارف الإسلام، بل كان يشير إلى مسألة الفصل بين الدين
والسياسة بالكناية والمجاز.
ـ يعتبر الميرزا فتحعلي آخوند زادة من الأصدقاء المقربين لملكم خان. كان علمانياً
إلى أعلى المستويات وكان من أشد المنتقدين للثقافة الإسلامية. قيل حوله أنه علماني
عريق وتابع حقيقي للحضارة الغربية وكان ينادي برواج الفكر الغربي في إيران ويعتبر
ذلك من لوازم الحرية والتحرر[6].
ويعتبر أخوند زاده من جملة المفكرين المعادين للثقافة الإسلامية حتى أنه اشكل على
مستشار الدولة مؤلف كتاب "كلمة واحدة" منتقداً إياه في مسألة اغفاله عدم المساواة
بين المرأة والرجل والمسلم وغير المسلم في الفقه الإسلامي وفي مسألة جمعه بين
الديمقراطية والإسلام.
ويعتقد بأن قانون الجزاء الإسلامي يتنافى مع روح النظام الديمقراطي الغربي. يضاف
إلى ذلك انتقاده للرسول الأكرم (ص) والإسلام منطلقاً في ذلك من القومية والتعصب
الشديد لإيرانيته[7].
ـ الميرزا عبد الرحيم طالبون واحد آخر من العلمانيين المنادين بالفصل بين الدين
والسياسة، كان يتظاهر باتباعه الإسلام شأنه في ذلك شأن مستشار الدولة وملكم خان،
إلا أن تغربه كان واضحاً مما دفع الشيخ فضل الله نوري (رحمه الله) إلى تحريم كتبه
وكفر صاحبها[8].
2 ـ مرحلة حكومة العلمانية في إيران:
وجدت حركة المشروطة في إيران بقيادة علماء الدين المسلمين بهدف مواجهة الظلم
والاستبداد وللمطالبة بتطبيق أحكام الشريعة. ويمكن اعتبار المشروطة مكاناً اجتمعت
فيه التيارات الثلاث الاستبداد، الفكر الإسلامي والعلمانية ووصلت في نهاية الأمر مع
انقلاب رضا خان ومساعدة الإنجليز له إلى حكومة العلمانية بشكل كامل على إيران.
في هذه الأجواء بدأ قادة العلمانية العمل وبشكل جادٍ على محاربة الإسلام
والترويج للثقافة الغربية ومحورية الشاه فأوجدوا ايديولوجية جديدة في المجتمع. وقد
امتازت العلمانية في هذه المرحلة بما يلي:
ألف ـ معارضة الإسلام والعمل على انزوائه عن طريق التشكيك في المباني الدينية،
الدفاع عن الحركات الانحرافية، مواجهة نفوذ قادة الفكر الديني، العمل لتوسيع دائرة
الفساد، الفحشاء والتبليغ للثقافة الغربية في المجتمع.
ب ـ قيام النظام التعليمي والتربوي على أساس مبادئ العلمانية المقتبسة من الغرب.
ج ـ تدوين نظام قضائي جديد والعمل على اجرائه وكل ذلك بناءً على مبادئ حقوق الإنسان
الغربية.
د ـ ايجاد قاموس لغوي جديد والعمل لتغيير الالفباء.
هـ ـ إزالة الحجاب وتوحيد اللباس[9].
3 ـ مرحلة افول العلمانية في إيران:
يمكن اعتبار انتصار الثورة الإسلامية في إيران بداية مرحلة أفول العلمانية. لأن
الثورة قد كرست وجود الدين ووجود قيادة الفقيه الجامع للشرائط بالإضافة إلى مشاركة
الشعب المسلم. ويمكن اعتبار الثورة الإسلامية نتيجة التعارض بين الفكر الإسلامي
والعلمانية حيث انتهى الأمر في النهاية إلى غلبة الفكر الديني. وإذا كانت مرحلة
الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية قد ساهمت في انزواء العلمانية إلا أن
حركتهم بدأت تدب من جديد من خلال الكتابات المختلفة وذلك في مرحلة ما بعد الحرب حيث
الاستقرار السياسي الذي هيأ الأجواء لها. وظهرت محاولاتهم الجديدة في اظهار عجز
الدين وتبيين ضعف ولاية الفقيه وبالتالي الادعاء بضرورة الفصل بين الدين والسياسة.
* أكبر اسد عليزاده
[1] راجع: عبد الهادي
الحائري، المواجهة الأولى بين المفكرين الإيرانيين مع شكلين من الحضارة البرجوازية
الغربية، ص179 ـ 181.
[2] راجع: عبد اللطيف الشوشتري، تحفة العالم، باهتمام صمد موحد، طهران، نشر طبوري،
1363هـ.ش، ص28.
[3] راجع: أبو الحسن ايلتشي، حيرة السفراء، ص210.
[4] لمزيد من المعلومات راجع الكتب الفارسية التالية:
ـ فراما سوزى درايران، محمود كثيراي.
ـ تاريخ روابط إيران دانكليس، محمود محمود.
ـ فراما سون در انقلاب فرانسه، نجفقلي معزي.
ـ كتاب فراموشخانة وفراما سونرى در إيران، إسماعيل رائين.
[5] أحمد خاغلك ساساني، السياسيون في المرحلة القاجارية، طهران نشر طهور، 1346هـ.ش،
ج1، ص144.
[6] عبد الهادي الحائري، المواجهة الأولى بين المفكرين الإيرانيين مع شكلين من
الحضارة البرجوازية الغربية، ص27.
[7] المصدر نفسه، ص29.
[8] راجع: محمد مدد بور، التجدد ومعارضة الدين، طهران، جامعة شاهد، 1373هـ.ش، ص
149، افرد المؤلف في كتابه العديد من الصفحات (ص81 ـ 160) للبحث حول الحركة
التنويرية في إيران.
[9] فلسفة السياسة، ص75 ـ 76.