إن مراجعة النقوش المكتشفة، والمدونات الباقية، عن الحضارات الموغلة في القدم، تؤكد
أن كل أمة من الأمم، ورغم إطلاقها اسم الإله، على مجموعة من الكائنات، وتقديسها،
وربما تقدم لها القرابين، إلا أنه يوجد بين هذه المجموعة إله أعظم، له السلطة
والسيطرة على الآلهة الأخرى، فهو يسيرها ويقهرها، ويأمرها وينهاها، ويعاقب من يتمرد
منها، بل يتصف بصفة السيطرة على السماء والأرض، وما فيهما، وما بينهما، من موجودات
وكائنات، وإن اختلفت أسماء هذا الإله الأعظم، من حضارة إلى أخرى، ومن قوم إلى قوم
آخرين، ومن زمان إلى آخر.
إن اختلاف أسماء الذات الإلهية من لغة إلى أخرى، وبين أمة وأمة، لا يعني الإختلاف
في الذات الإلهية، ولا تعددها بالضرورة، فإطلاق اسم "آن" في الحضارة الأكادية،
و"إنليل" في الحضارة السومرية، و"بل" في الحضارة البابلية، و"رع" و"آتون" في
الحضارة المصرية و"ايل" في الحضارة الكنعانية، لا يدل على مسميات مختلفة في هذه
الحضارات، ما دامت الصفات التي تطلقها هذه الأمم على معبودها واحدة.
غاية ما في الأمر، أن كل أمة قد سمت الذات الواحدة، بالإسم الذي يناسب ثقافتها
ولغتها، كما هو الحال في هذه الأيام، حيث نجد أنه في اللغة العربية يطلق على الذات
الإلهية المقدسة إسم "الله"، وفي الفارسية "خدا"، وفي العبرية "يهوه"، وفي الفرنسية
"dieu"، وفي الإنكليزية "god"، من دون أن يدل ذلك على آلهة مختلفة، تبعا لاختلاف
اللغات والثقافات، كما هو ظاهر، ذلك أن الميزان في هذه الصفات التي تطلق على هذه
الذات المقدسة، وهل هي صفات واحدة أو متقاربة، أم هي صفات متباعدة أو متباينة.
وماذا عن الآلهة الأخرى:
إلا أن الأمم الماضية كانت تقدس آلهة أخرى، أصغر من الإله الأعظم كما
ذكرنا، وكما هو صريح في مدوناتهم، وتصنفها إلى مجموعات، وتفترض لكل إله وظيفة خاصة
به، لا يتجاوزها إلى غيرها، وهذا ينافي ما تقدم من أصالة التوحيد، وأسبقيته عند هذه
الأمم.
ولكن الظاهر أن هذه الكائنات لم تكن آلهة على الحقيقة، في معتقد هذه الأمم والشعوب،
بل هي عبارة عن ما يسمى بالملائكة، الموكلة ببعض الأعمال وشؤون الخلق، والشياطين
المتمردين على الإرادة الإلهية، والذين يخدعون الناس بإبراز بعض القوة أمام ضعافهم.
وإطلاق اسم الآلهة عليها إما تساهلا، أو لضيق التعبير في لغات هذه الأمم، والدليل
على ذلك تسليم هذه الأمم بوجود إله أعظم، بمثابة رئيس لها، يقهرها ويسيرها، وتمتثل
أوامره ونواهيه، ويمكنه معاقبتها ونزع صلاحياتها، بقدر ما يمكنه إثابتها، وإضافة
صلاحيات زائدة على الصلاحيات المعطاة لها منه أصلا، كما تدل عليه مدونات هذه الشعوب
المكتشفة أخيرا.
ومما يؤيد هذا المعنى ما ذكره فراس السواح، بقوله: "غالبا ما نلاقي صعوبة في الفصل
بين الآلهة والشياطين، فنمطار مثلا نجده إلها في الآلهة وشيطانا في الشياطين
السبعة...".
ويتابع السواح قائلا: "...حتى ليمكننا القول أن كثيرا من ذلك العدد الضخم من الآلهة
الذي يتألف منهم البانثيون لا يعدون كونهم مجرد أسماء، أو أكثر قليلا، فكثير من
الآلهة الدنيا، وبعضها من الآلهة العظمى، ما هي إلا تشخيص لنفس الظاهرة الطبيعية،
لكن تحت أسماء مختلفة...[1]".
وهذا، كما لا يخفى، عبارة أخرى عن الملائكة الموكلين بتسيير شؤون العالم الدنيوي،
ولعل هذا هو السبب في إطلاق الألوهية عليها عند بعض الناس.
وقد ورد ما يدل على هذا المعنى في القرآن الكريم، في قوله تعالى:
﴿اتخذوا أحبارهم
ورهبانهم أربابا من دون الله﴾[2].
وبين أئمة الهدى عليهم السلام أنه ليس بالربوبية فيها المعنى الحقيقي لها، فإنهم "
ما صلوا لهم ولا صاموا ولكن أمروهم فأطاعوهم".
وكذلك قوله تعالى:
﴿أفرأيت من اتخذ إلهه هواه﴾[3]، من جهة اتباعه له، وعدم الإكتراث
بما يمليه عليه عقله، أو ما يأمره به الله تعالى.
شواهد نصية:
ولكي لا يبقى الحديث في إطار الإفتراض والنظرية، لا بد من ملاحظة بعض
النصوص، التي فك العلماء رموزها، واستطاعوا قراءتها، من هذه المنقوشات.
ففي الحضارة السومرية، وهي أقدم الحضارات والمدونة والمكتشفة تقريبا، نجد أن
الألوهية تحتل موقعا مهما في الحياة، وبدونها لا يمكن أن تستقيم هذه الحياة أو
تستمر، فالألوهية وعي تام، وحركة دائمة، لاستمرار حياة الإنسان إلى المستقبل، وليست
مجرد حالة سيكولوجية، نابعة من الخوف أو العجز، كما يراه أصحاب الرأي الأول، فنرى
مثلا: "بدون إله لا يستطيع الإنسان أن يكسب عيشه، ولا الشاب يستطيع تحريك يده
ببطولة في القتال[4]".
نلاحظ في هذا النص أن العبادة، أو الإعتقاد بالألوهية، ليس ناشئا من مجرد الخوف من
المجهول، أو الإنبهار أمام ظاهرة من الظواهر، بل هو فعل واع يربط الوجود الإنساني
بالكون أصلا.
وفي ما يرتبط بمبدأ الخلق، يقوم الإعتقاد السومري على أنه قبل الكون، لم يكن شيء
سوى الإلهة نمو، ولا أحد معها، وهي المياه الأولى التي انبثق عنها كل شيء[5].
ونجد في نص آخر أن السماء والأرض لم تكونا منفصلتين، وتم فصلهما بفعل واع، من الإله
الذي يمكن أن يتخلف مراده عن إرادته، فتقول: "إن الإله الذي أخرج كل شيء نافع.
الإله الذي لا مبدل لكلماته. إنليل الذي أنبت الحب والمرعى. أبعد السماء عن الأرض.
وأبعد الأرض عن السماء[6]".
وقد ورث البابليون السومريين، وأسسوا حضارتهم على أنقاض حضارتهم، وتعرضوا لمسألة
الخلق والإله أيضا، وذكروا أن أصل الكون إله واحد، سيد الآلهة وأبوهم، ومؤسس الكون
ومنشؤه، تقول بعض النصوص البابلية: "عندما في الأعالي لم يكن هناك سماء. وفي الأسفل
لم يكن هناك أرض. لم يكن (من الآلهة) سوى آبسو أبوهم. وممو وتعامة التي حملت بهم
جميعا...[7]".
وفي مرحلة متأخرة من الحضارة البابلية، والتي ظهرت فيها شريعة حمورابي، والتي شكلت
ولا تزال، قمة ما وصل إليه الفكر البشري، من رؤى متقدمة، في القانون وتنظيم شؤون
الحياة الإنسانية، يبتدئ حمورابي شريعته بالإعلان عن أن حكمه قد تم، بوحي وإذن
إلهي، وقد استند إلى الوحي في وضع شريعته، لتكون أساسا لحكم العدل في العالم، وليس
في مملكته فحسب، بل في كل أنحاء العالم، وأن الذي فوضه بذلك هو الإله "بل" رب
السماء والأرض، والذي يقرر مصير العالم بحسب تعبيره[8].
ونزعة التوحيد بادية في هذه الوثيقة، التي كشف فيها عن شريعته وتعاليمه، رغم ما
يتراءى فيها من القول بتعدد الآلهة، إلا أن مرد ذلك إلى ما تقدم، من أن بعض الآلهة
عبارة عن الملائكة الموكلين، أو الشياطين المتمردين، الذين يبدو بحسب الظاهر أن لهم
تأثيرا في عالم التكوين.
ثم يبين لهم أعماله ومخلوقاته، ومن جملة هذه المخلوقات الآلهة أنفسهم[9].
والوثائق المكتشفة من الحضارات القديمة، والكاشفة عن أن نظرة التوحيد هي الأصل في
الإنسان كثيرة، لا يمكن حصرها في هذه العجالة، وإن تراءى من بعض النصوص القول بتعدد
الآلهة.
ويؤيد نزعة التوحيد هذه لدى الأمم السابقة، ما ذكره محررو معجم اللاهوت الكتابي، من
أن "إيل" كان اسم الإله الأعظم والإله الأعلى عند جميع الشعوب السامية[10].
وماذا عن الكتاب المقدس:
لقد تسربت مثل هذه المفاهيم، اعني تعدد الآلهة المفترضة، مع الحفاظ على
مبدأ التوحيد والإله الأعظم، إلى ثقافة أهل الكتاب، وهو ما انعكس في النصوص المقدسة
عندهم، فنجد مثلا في سفر التثنية قوله: "لأن الرب إلهكم هو إله الآلهة ورب الأرباب
الإله العظيم الجبار[11]".
ويقول بولس: "نعلم أن ليس وثن في العالم وأن ليس إله آخر إلا واحدا، لأنه وإن وجد
ما يسمى آلهة سواء كان في السماء أو على الأرض كما يوجد آلهة كثيرون وأرباب كثيرون،
ولكن لنا إله واحد...[12]".
وقد بلغ هذا الإشتباه الذروة، حين فرض أن قضاة بني إسرائيل، بل كل الشعب الإسرائيلي
آلهة، فقد ورد فيه قوله: "الله قائم في مجمع الله. في وسط الآلهة يقضي،....، أنا
قلت أنكم آلهة وبنو العلي كلكم[13]".
وقد استشهد إنجيل يوحنا بالعبارة الثانية، على لسان السيد المسيح×، وافترض قداسة
هذا التعبير وصحته، حين قال: "أجابهم يسوع أليس مكتوبا في ناموسكم أنا قلت إنكم
آلهة، إن قال آلهة لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله. ولا يمكن أن ينقض
المكتوب،...[14]".
وهذا كله إن دل على شيء، فإنما يدل على الخلط بين المفهوم الصحيح للإله، وبين
الملائكة والشياطين، في أذهان عامة الناس من هذه الأمم، وعلى نحو أشد في ثقافة أهل
الكتاب، حيث جعلت الناس العاديين آلهة، دون أن ينال كل ذلك من مبدأ التوحيد وعراقته
وأصالته، وتجذره في الفطرة الإنسانية.
سماحة الشيخ حاتم اسماعيل – بتصرف يسير
[1] موسوعة تاريخ
الأديان، ج2، ص244
[2] سورة التوبة: آية: 31
[3] سورة الجاثية، آية:23
[4] الدين السومري، خزعل الماجدي، ص31
[5] مغامرة العقل الأولى، فراس السواح، ص32
[6] المرجع نفسه، ص35
[7] المرجع نفسه، ص56
[8] الأديان الوضعية المنقرضة، د. محمد العريبي، ص18-19
[9] المرجع نفسه، ص140-141
[10] معجم اللاهوت الكتابي، ص91
[11] سفر التثنية:10/17
[12] رسالته الأولى إلى كورنتوس:8/5
[13] فرمور: 82/1-6
[14] إنجيل يوحنا: 10/34-35