بناء فكر الإنسان:
للعقل مكانة كبيرة في الدين الإسلامي، فهو أصل في التوصّل إلى الاعتقاد الصحيح، وهو
دليل من أدلة الاجتهاد، قال الرسول الأكرم (ص):.. « ولكلِّ شيء دعامة، ودعامة الدين
العقل»[1].
ومن جانب آخر يشكّل العقل دعامة الإنسان المؤمن، قال (ص): « من كان له عقل كان له
دين، ومن كان له دين دخل الجنة »[2].
وقد بلغت النصوص التي تتناول التنبيه إلى دور العقل المئات، ومن خلال نظرة عامّة
إلى هذه النصوص نكتشف أن مشروع الإسلام في إعطاء العقل دوره الحقيقي قد جاء على
مرحلتين ؛ فهو يبتدئ بتحرير العقل، ثم ينتقل إلى توجيه طاقاته.
تحرير العقل:
هذه الخطوة الاُولى من خطوات المشروع الإسلامي المذكور نكتشفها في النصوص التي
توجهت إلى نبذ القيود التي تقيّد العقل وتمدُّ من نشاطه الحقيقي، وتقوده إلى أخطاء
خطيرة بسبب ذلك.. وهذا ما نجده في نموذجين بارزين:
الأول: نبذ التقليد الأعمى: وأمثلته في القرآن الكريم كثيرة جدا، نقرؤها في سور
متعددة ومشاهد متعدّدة: فبينما كان يؤكد افتقارهم إلى أدنى حجّة ذات قيمة في ما
يعتقدون من عبادة الأوثان والعقائد الزائفة، ركّز على أنَّ كلّ ما يمتلكونه من حجّة
هو أنّهم وجدوا آباءهم على ذلك، فتمسّكوا به.. « بَل قالُوا إنّا وجَدَنا آباءَنا
على أُمّةٍ وإنَّا على آثارِهِم مُهتَدُون »[3].
ثم يؤكد أنّ هذا هو ديدن هذا الصنف من الناس الذي أغلق على ذهنه المنافذ..
(وكذَلِكَ ما أرسلنَا مِنْ قَبلِكَ في قَرَيةٍ مِنْ نَذِيرٍ إلاّ قالَ مُترفُوها
إنّا وجدَنا آباءَنا على أُمّةٍ وإنّا على آثارِهِم مُقتَدُون)[4]. وهكذا يسوق
مقولتهم هذه مرتين في آيتين متتابعتين ليجسّد ما تنطوي عليه هذه المقولة من تهافت،
وما يغيب فيه هؤلاء من جهل متجذّر موروث لا يصغي لدعوة حق ولا لبرهان ساطع بل ليس
لديهم أكثر من ترديد مقولتهم تلك (أجِئتَنا لتَلفِتنا عمّا وجَدنا عليهِ
آباءَنَا)[5]؟! حتى لو جاءهم متحديا لما وجدوا عليه آباءهم مبيّنا فساده.. (قال
أوَلو جِئتُكُم بأهدى ممَّا وجدتُم عليهِ آباءَكُم)؟ حتى مع مثل هذه الاستثارة لا
يبحثون عن برهان، ولا يفتحون نافذة للنظرة، بل وقفوا دائما بتحجرّهم الأوّل، و
(قالُوا إنّا بِما أُرسِلتُم بهِ كافِرُونَ)[6]، و (قَالُوا حَسبُنَا ما وَجَدنَا
عَليه آباءَنا)[7]!! ويكرّر القرآن النكير على هؤلاء في مواضع آخر، لأنّه إنما
يواجه في مشروعه المعرفي نظريات استحكمت وترسخت لدى أُمم متتابعة، لا يستبعد أن
يكون لها امتداد في مستقبل الأُمم أيضا.. فلقد تجاوزت هذه النظرية حدود المعارف
والمعتقدات إلى السلوك والمعاملات.. (وإذا فَعلُوا فَاحِشةً قالُوا وجَدنا عَليها
آباءَنا)[8]. و (قالُوا بَل وَجَدنَا آباءَنا كذلِك يَفعَلُونَ)[9]!!
بعد هذا يبيّن القرآن الكريم الجزاء الذي ينتظر قوما مضوا على هذا النهج، مثيرا
الاذهان إلى ضرورة الحذر من نهجٍ كهذا.. (فانتَقمنا مِنهُم فانظُر كيفَ كانَ عاقبةُ
المُكذِّبينَ)[10].
توجيه طاقة العقل
بعد أن حرّرت العقيدة الإسلامية العقل من القيود التي تأسره، أطلقته إلى أمام
وهي توجه طاقاته من خلال الالفات والتدبر في الكون والحياة، من أجل بناء متكامل
دينا ودنيا.. ويمكننا أن نشير إلى مجموعات من آيات الذكر الحكيم توجه العقل إلى
آفاق رحيبة متعددة، منها:
أولاً: التدبر في آيات اللّه تعالى في الآفاق وفي الأنفس: قال تعالى: (إنَّ في خَلق
السَّمواتِ والأرضِ واختلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ لأياتٍ لأُولي الألبابِ *
الَّذينَ يَذكُرُونَ اللّه قِياما وقُعودا وعلى جُنُوبِهِم ويتفكَّرُونَ في خَلقِ
السمواتِ والأرض ربَّنا ما خلقتَ هَذا باطلاً سُبحانَكَ فَقِنَا عذابَ
النَّارِ)[11].
(وفي الأرض آيتٌ للمُوقِنينَ * وفي أنفُسِكُم أفلا تُبصِرُونَ)[12].
(قُلِ انظرُوا ماذا في السَّمواتِ والأرضِ.. )[13].
(فلينظُر الإنسانُ ممَّ خُلِقَ)[14].
(فلينظُر الإنسانُ إلى طَعَامِهِ)[15].
(أفلا يَنظُرُونَ إلى الإبل كيفَ خُلِقَت * وإلى السمآءِ كيفَ رُفِعَت * وإلى
الجبال كيفَ نُصِبَت * وإلى الأرض كيفَ سُطِحَت * فذَكِّر إنَّمآ أنتَ
مُذَكِّرٌ)[16].
ومما يلفت النظر عناية القرآن بذكر مشاهد الكون عناية كبيرة من خلال تكرار عرضها في
أكثر من سورة، عرضا متنوعا، ودعوته الإنسان بإلحاح إلى النظر والتأمل فيها، والتفكر
في مجرى حوادثها، والأهم من ذلك كلّه جعل هذا الكون منطلقا للوصول إلى اللّه تعالى
خالقه ومبدعه.
وقد ورد عن رسول اللّه (ص) أنه كان يقرأ: (إنَّ في خلق السَّمواتِ والأرضِ
واختِلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ لأياتٍ لأُولي الألبابِ * الَّذينَ يَذكُرُونَ اللّه
قِيامَا وقُعودا وعلى جُنُوبِهِم ويتفكَّرُونَ في خَلقِ السَّمواتِ والأرضِ ربَّنا
ما خلقتَ هذا بَاطِلاً سُبحانَكَ فَقِنَا عذابَ النَّارِ)[17]، ويقول: « ويلٌ لمن
قرأها ولم يتفكّر فيها » وفي رواية أُخرى: « ويلٌ لمن لاكها بين فكيه ولم يتأملها »
وعن الإمام علي (ع): أن النبي (ص) كان إذا قام من الليل يتسوّك ثم ينظر إلى السماء
ثم يقول: (إنَّ في خَلقِ السَّمواتِ والأرضِ واختلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ لأياتٍ
لأُولي الألبابَ * الَّذينَ يَذكُرون اللّه قياما وقُعودا وعلى جُنُوبِهِم
ويتفكَّرُونَ في خَلقِ السَّمواتِ والأرضِ ربَّنا ما خَلقتَ هذا باطِلاً سُبحانَكَ
فَقِنَا عذابَ النَّارِ)[18].
وقد سلك الأئمة الأطهار: طريق الاستدلال على وجود اللّه تعالى من خلال التأمل
العقلي في الكون وما فيه من نظم دقيق وتناسق بديع، وهو الدليل الذي أطلق عليه
المتكلمون « دليل النَّظم ».
قال أمير المؤمنين علي (ع): « ولو فكَّروا في عظيم القُدرة، وجسيم النعمة، لرجعوا
إلى الطريق، وخافوا عذاب الحريق، ولكن القلوب عليلة، والبصائر مدخولة، ألا ينظرون
إلى صغير ما خلق، كيف أحكم خلقه، وأتقن تركيبه، وفلق له السّمع والبصر، وسوّى له
العظم والبشر!
انظروا إلى النملة في صغر جثتها، ولطافة هيئتها لا تكاد تنال بلحظ البصر، ولا
بمستدرك الفكر، كيف دبّت على أرضها وضنّت على رزقها... ولو فكّرت في مجاري أكلها،
وفي علوها وسفلها، وما في الجوف من شراسيف بطنها، وما في الرأس من عينها وأُذنها،
لقضيت من خلقها عجبا، ولقيت من وصفها تعبا...
فانظر إلى الشمس والقمر،... وتفجّر هذه البحار، وكثرة هذه الجبال، وطول هذه القلال،
وتفرّق هذه اللغات والألسن المختلفات..
فالويل لمن أنكر المقدِّر، وجحد المدبّر، زعموا أنّهم كالنّبات ما لهم زارعٌ، ولا
لاختلاف صُورهم صانع، ولم يلجؤوا إلى حُجّةٍ فيما ادّعوا، ولا تحقيق لما أوعوا..
وهل يكونُ بناءٌ من غير بانٍ، أو جنايةٌ من غير جانٍ! »[19].
ومن ناحية أُخرى يثير القرآن الكريم في الاذهان دواعي التفكر الجاد والمثمر في ما
يعرضه من معارف، فمرّة بصيغة الاستفهام الاستنكاري، كقوله تعالى: (أفحَسبتُم أنّما
خلقنَاكُم عَبَثا)[20].
ومرّة بصيغة النفي للتصورات الساذجة، كقوله تعالى: (وما خَلقَنا السَّمواتِ والأرضَ
وما بَينهُما لاعِبِين * ما خَلقَناهُمآ إلاّ بِالحَقِّ وَلكِنَّ أكثَرهُم لا
يَعلَمُونَ)[21].
والمعروف أنّ مدرسة أهل البيت: تجعل التفكّر في ملكوت السماوات والأرض عبادة، بل
أفضل عبادة، يقول الإمام الصادق (ع): « أفضل العبادة إدمان التفكّر في اللّه وفي
قدرته »[22].
وكان أتباع هذه المدرسة العالية وتلامذتها يكثرون من هذه العبادة الفكرية التي
تُسهم بصورة فعّالة في بناء الإنسان وإيصاله إلى مراتب عرّفانية عالية. فعلى سبيل
المثال، كانت أكثر عبادة أبي ذرّ ; التفكر والاعتبار وقد سئلتُ أمّ أبي ذرّ عن
عبادة أبي ذرّ فقالت: « كان نهاره أجمع يتفكر في ناحية من الناس »[23].
وينبغي معرفة أنّ النظرة العامة الى الوجود التي يرشد إليها الثقلان ـ القرآن
والعترة ـ هي الأصل الذي تنبثق منه جميع نظرات الإنسان الفكرية واتّجاهاته
السلوكية، وهي الأساس في اختلاف الحضارات والثقافات.
ثانيا: النظر في سنن التاريخ: حيثُ دعتنا العقيدة إلى تأمل أحداث التاريخ بنظر
ثاقب، وفكر فاحص، وصولاً إلى العوامل التي كانت سببا في تدهور المجتمعات، وسقوط
الحضارات، أو نموّها، قال تعالى: (قد خلت من قبلكم سُنن فسيروا في الأرضِ فانظروا
كيف كان عاقبة المكذبين)[24]. وقال تعالى: (ألمَ يروا كم أهلَكنَا مِن قَبلِهِم مِن
قَرنٍ مَّكّنهُم في الأرضِ ما لم نُمكّن لَكُم وأرسلنا السَّمآء عَليهِم مِدرَارا
وجعلنا الأنهر تجري من تَحتِهم فأهلكنهُم بذُنوبِهم وأنشأنا مِن بعدِهم قَرنا
ءآخرينَ)[25].
وقال تعالى: (ولَقد أهلَكنَا القُرونَ مِن قَبلِكُم لما ظَلمُوا وجاءَتهُم رُسُلُهم
بالبيناتِ وما كانُوا ليؤمنُوا كذلِكَ نجزي القومَ المجرمينَ)[26].
إنّها دعوة تلح على الناس أن يحركوا عجلة عقولهم، وينظروا في تاريخ من قبلهم، حتى
لا يكونوا كالقطيع التائه يسير بلا راع نحو المجهول، وهي دعوة ذات منهج مرسوم من
أجل الاستفادة من تجارب الحضارات السابقة ودراسة أسباب سقوطها، لا سيّما وأنّ
التاريخ يعيد نفسه قال تعالى: (سُنَّةَ اللّه في الذِينَ خلوا من قَبلُ ولن تَجِدَ
لسُنَّةِ اللّه تبديلاً)[27]. ولا بدَّ من التنويه على « أنّ دور الدين ومسؤوليته
في حياة الإنسان هو إيجاد جوّ من الملائمة والانسجام بين سلوك وتفكير الإنسان وبين
سنن اللّه تعالى في الحياة، وتحويل مجرى حياة الإنسان إلى تيار هذه السنن الإلهية
التي جعلها اللّه نظاما لخلقه وتكوينه في هذا الكون »[28].
فالدين يوجّه فكر الإنسان إلى النظرة العميقة والهادفة، وبطبيعة الحال هناك فرق
كبير بين النَّظرة السطحية الساذجة للحياة والتاريخ، وبين النظرة العميقة والمتفحصة
التي لا تقتصر على ملاحظة الشيء أو الحدث، وإنّما تنفذ إلى أعماقه، وترصد لوازمه
ودلالاته بغية استنباط السُنّة التاريخية التي تنطبق عليه، فعلى سبيل المثال يمر
السائح على أهرامات مصر، فينبهر لروعة بنائها، وشدة ارتفاعها، ويتمتع بمنظرها
وينتهي كل شيء. أما المفكّر الواعي المتسلح بالعقيدة، فعندما يمر عليها، ترتسم في
ذهنه عدَّة تساؤلات: عن قدرات الإنسان، وعن الظلم الذي كان سائدا آنذاك من خلال
تسخير الفراعنة لأعداد كبيرة من الناس للعمل في بناء هذه الاهرامات، وما لاقوه من
العناء والتعب وصنوف التعذيب، كما يستنتج ما تنطوي عليه فكرة الفراعنة الخاطئة عن
الموت والبعث، بل يتزود المؤمن الوعي بعد تلك المعارف بالعبرة النافعة وهو يشاهد
خرائبها فيتسائل في نفسه، أين ساكنيها وما مصيرهم؟!
من أجل ذلك يرشد آل البيت: إلى أهمية الملاحظة الواعية والنَّظرة العميقة التي لا
تقتصر على ظواهر الأمور، بل تنفذ إلى الأعماق، وما تنطوي عليه من أبعاد، ودلالات
تضمنية أو التزامية. فعن الحسن الصيقل، قال: قلتُ لابي عبداللّه (ع): تفكّر ساعة
خير من قيام ليلة؟ قال (ع): « نعم، قال رسول اللّه (ص): تفكّر ساعة خير من قيام
ليلة »[29].
ولمّا مرَّ أمير المؤمنين (ع) بخرائب المدائن، أعطى لأصحابه درسا حول العبرة من
التأريخ، قال (ع): « إنّ هؤلاء القوم كانوا وارثين، فأصبحوا مورثين، وإنّ هؤلاء
القوم استحلّوا الحُرم فحلّت فيهم النّقم، فلا تستحلوا الحُرم فتحلَّ بكم النقم
»[30].
وقال (ع): « فاعتبروا بما أصاب الاُمم المستكبرين من قبلكُم من بأس اللّه وصولاته،
ووقائعه ومثلاته.. »[31].
وذهب الإمام علي (ع) إلى أبعد من ذلك، عندما أشار إلى أن السُنّة التأريخية تنطبق
على الجميع، في كلِّ مكان وزمان، ولا تقتصر على تدمير الكافرين والمستكبرين، بل
تطال المؤمنين أيضا، إذا لم يلتزموا ـ عمليا ـ بالمنهج الإلهي في الحياة، وإذا
حادوا عن جادّة الصواب وذلك حين تختلف الكلمة وتسود الفرقة، وفي هذا الصدد يقول
(ع): « وتدبَّروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم، كيف كانوا في حال التمحيص
والبلاء.. فانظروا كيف كانوا حيثُ كانت الأملاء مجتمعةً والأهواءُ مؤتلفة.. فانظروا
إلى ما صاروا إليه في آخر أُمورهم حين وقعت الفرقة، وتشتَّتت الاُلفة، واختلفت
الكلمة والأفئدة، وتشعّبوا مختلفين، وتفرّقوا متحاربين، قد خلع اللّه عنهم لباس
كرامته، وسلبهم غضارة نعمته، وبقي قصص أخبارهم فيكم عبرا للمعتبرين »[32].
وكان من جملة وصيته الذهبية لابنه الحسن (ع) يحثه على التفكر في أحوال الاُمم
الماضية، وهو ما يسمى اليوم بـ « فلسفة التأريخ »: « أيْ بُنيَّ إنّي وإن لم أكُن
عُمِّرتُ عمر من كان قبلي، فقد نظرتُ في أعمالهم، وفكرت في أخبارهم، وسرتُ في
آثارهم، حتى عُدتُ كأحدهم، بل كأني بما انتهى إليَّ من أمورهم قد عُمِّرت مع أوّلهم
إلى آخرهم.. »[33].
ثالثا: النظر في حكمة التشريع: والغرض من ذلك ترسيخ قناعة المسلم بتشريعه وصوابيته
وبيان صلاحيته للتطبيق في كلِّ زمان ومكان، من أجل أن تنقشع عن فكر المسلم غيوم
الشبهات التي يثيرها أعداء العقيدة من حوله. وإذا كانت بعض أحكام الدين الإسلامي
توقيفية، تدعو المسلم نحو التسليم بها، ولا يجدي معها إعمال العقل، كالأُمور
العبادية، إلاّ أن هناك تشريعات في الإسلام ذات أبعاد اجتماعية كشف
القرآن لنا عن الحكمة الكامنة من وراء تشريعها لمصالح تعود إلى الفرد والمجتمع، من
قبيل قوله تعالى: (ولكُم في القِصَاصِ حياةٌ يأُولي الألبابِ لعلَّكُم
تتَّقون)[34].
وقوله تعالى: (ما يُريدُ اللّه لِيَجَعَلَ عليكُم مِن حَرَجٍ ولكِن يُرِيدُ
لِيُطهّركُم ولِيُتمَّ نِعمَتَهُ عَليكُم)[35] .
كما كشفت لنا السُنّة عن جوانب كثيرة من حكمة التشريع، وعلى سبيل المثال: كتب
الإمام علي بن موسى الرضا (ع) إلى محمد بن سنان فيما كتب من جواب مسائله: « حرّم
اللّه قتل النفس لعلّة فساد الخلق في تحليله لو أحلَّ وفنائهم وفساد التدّبير..
وحرّم اللّه تعالى الزّنا لما فيه من الفساد من قتل الأنفس وذهاب الأنساب وترك
التربية للأطفال وفساد المواريث وما أشبه ذلك من وجوه الفساد.. »[36].
رابعا: توجيه العقل إلى النظر، والتثبت في الرأي، واستقلالية التفكير والقرار:
قال رسول اللّه (ص): « لا تكونوا إمّعة، تقولون: إنْ أحسنَ الناس أحسنّا، وإن ظلموا
ظلمنا، ولكن وطّنوا أنفسكم إن أحسنَ الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا أن لا تظلموا
»[37].
قال تعالى: (أفلا يَتَدبّرونَ القُرآنَ أم على قُلُوبٍ أقفالُها)[38].
نداء بليغ إلى النظر وإعمال الفكر، من خلال الاستنكار على السطحيين والمغفّلين
المعاندين، أولاً، ثم من خلال التقريع العنيف لهذه الأصناف من الناس، ثانيا.
وقال تعالى: (قُلْ هَاتُوا بُرهَانَكُم إن كُنتُم صادِقِينَ)[39].
فلا قيمة لدعوى لا تستند إلى برهان صحيح، وإذا كان الزمخشري قد رأى أنَّ هذا النصّ
هو « أهدمُ شيء لمذهب المقلّدين »[40]. فإنَّ فيه ما يفيد أكثر من ذلك، إذ قد ينصرف
لفظ المقلّدين إلى من غلب عليهم التقليد، لكنَّ هذا النصَّ حاكم على دائرة الفكر
البشري بكامل أجزائها ونواحيها، فقد يقع المفكرون ـ وكثيرا ما وقعوا ـ بأغلاط كبيرة
نتيجة اعتمادهم بعض الكليات العامّة التي استقر في أذهانهم أنها بديهيات لا تحتاج
إلى برهان، بينما لم تكن هذه الكليات في حقيقة أمرها إلاّ تصوّرات صادرة عن أوهام
أو قصور في العقل. وهذا كثير في أغلاط أهل الجدل، بل قد يقع أحيانا حتى في العلوم
التطبيقية، حين يُنظر إلى بعض الاستنتاجات على أنّها قوانين علمية ثابتة، في حين
أنّها استنتاجات قائمة على ملاحظات ناقصة، وهكذا نلمس مدى أكبر لدعوة القرآن الكريم
إلى تقديم البرهان التام على كلِّ مقولة ودعوى وسواء كانت في العلوم العقلية، أو في
العلوم التطبيقية.
ولا شك أنّ مساحة النظر والتدبّر واسعة، سعة المعارف والمواقف، وسنشير هنا إلى
أثرين مهمّين:
أحدهما عام عموم النص القرآني المذكور، وإن استهدف في ظاهره العقل المقلّد
والمتابع، شأن طوائف الناس الذين يغلب عليهم التقليد في عقائدهم ومواقفهم.
والأثر الثاني، مما جاء في لون خاص من ألوان المتابعة والتقليد، وهو التقليد
الأعمى لأشخاص استقرَّ لهم في النفوس موقع كبير، تلاشى إلى جنبه دور العقل وأثره في
النظر والتفكير والنقد، وكأن هؤلاء الاشخاص قد أصبحوا في أنفسهم ميزانا للحقّ، فلا
يصحّ أن توزن أقوالهم وأعمالهم أو تعرض للنقد والنظر، هذا النوع من التقليد الذي
كان ولا يزال مصدرا للكثير من الأخطار في العقائد والمواقف.. وقف إزاءه أمير
المؤمنين (ع) موقف الكاشف عن سرِّ الخطأ فيه والمعلّم للطريق الصحيح في التماس
المعارف، ذلك حين جاءه بعض من ذهله وقوف طلحة والزبير وعائشة في صف واحد إزاء أمير
المؤمنين (ع) فاستنكر أن يجتمع هؤلاء على خطأ، وذكر ذلك لأمير المؤمنين (ع) فأجابه
(ع) مبتدءا جوابه بالتنبيه إلى مصدر الوهم، منتقلاً بعد ذلك إلى اعطائه المنهج
السليم في المعرفة، فقال له (ع): « إنّك ملبُوس عليك، إن دين اللّه لا يعرف
بالرجال، بل بآية الحق، فاعرف الحق تعرف أهله »[41].
خامسا: توجيه الإنسان إلى كسب العلم والمعرفة:
من المسلّمات التي لا تحتمل جدلاً، أنّ الدين الإسلامي يحث بقوة على كسب العلم
والمعرفة، ومن يتأمل سور القرآن الكريم يجد ذلك يتكرر كثيرا تصريحا أو تلميحا:
(.. قُل هَل يَستَوِي الَّذِينَ يَعلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعلمُونَ إنَّما
يَتَذَكَرُ أُولُوا الألبابِ)[42].
(.. يَرفَعِ اللّه الَّذينَ ءامنُوا مِنكُم والَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ دَرَجاتٍ
واللّه بِما تَعمَلُونَ خَبِيرٌ)[43].
(وقُلْ ربِّ زِدني عِلما)[44].
(إنّما يَخشى اللّه مِن عِبادِهِ العُلمَاءُ)[45].
ولأهمية العلم فقد أخذ اللّه تعالى الميثاق على أهل الكتاب من أجل تبيينه، وعدم
احتكاره: (وإذ أخَذَ اللّه مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لتُبيّنُنَّهُ
للنَّاسِ ولا تكتُمونهُ.. )[46].
وبعد آيات القرآن تأتي أحاديث الرسول (ص) وآل بيته الأطهار: حيثُ تصبُّ في هذا
الاتجاه، وتقرُّ بأنّ العلم يشكِّل عماد الدين وفيه حياة الإسلام، وتحثُّ على طلبه،
وتكشف عن فضيلته، فمداد العلماء ـ في نظر الإسلام ـ أفضل من دماء الشهداء، وفضل
العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم، وفي هذا الصدد: يقول الرسول (ص): «
طلبُ العلم أفضل عند اللّه من الصلاة والصيام والحجّ والجهاد في سبيل اللّه »[47]
ويكفي الاستشهاد بكلمة الإمام علي (ع) العميقة المغزى: قيمة كلِّ أمرءٍ ما
يُحسنه[48]. في الدلالة على حثِّ أهل البيت: على كسب العلم والمعرفة.
إمعن النظر في هذه المقارنة البديعة التي يعقدها الإمام علي (ع) لكميل بن زياد
النخعي حول تفضيل العلم على المال، قال (ع): « يا كُميل العلمُ خيرٌ من المال،
العلمُ يَحرُسك وأنت تحرسُ المال، والمالُ تنقُصُهُ النفقة والعلم يزكو على
الانفاق، وصنيعُ المال يزول بزواله.
يا كميل بن زياد، معرفةُ العلم دينٌ يُدانُ به، به يكسبُ الإنسانُ الطاعة في حياته،
وجميل الأُحدوثة بعد وفاته، والعلم حاكمٌ، والمالُ محكوم عليه.
يا كميل، هلك خُزَّانُ الاموال وهُمْ أحياء، والعلماءُ باقون ما بقي الدهر، أعيانهم
مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة »[49].
ونتيجة لهذا الزاد المعرفي الغني، انطلق الإنسان المسلم من أسر الجهل والتخلف إلى
آفاق العلم الواسعة، فأخذ يتأمل الظواهر الكونية، ويكتشف أسرار الطبيعة، من خلال
المنهج التجريبي الذي وجهته عقيدته إليه، وهو المنهج الذي قام عليه العلم الحديث.
يقول: (جِب) في كتابه: الاتجاهات الحديثة في الإسلام: « أعتقد أنّه من المتفق عليه
أنّ الملاحظة التفصيلية الدقيقة التي قام بها الباحثون المسلمون، قد ساعدت على
تقدّم المعرفة العلمية مساعدة مادية ملموسة، وأنّه عن طريق هذه الملاحظات وصل
المنهج التجريبي إلى أوروبا في العصور الوسطى »[50].
وللإنسان أن يقف مبهورا أمام عظمة العقيدة الإسلامية، التي أحدثت ذلك الانقلاب
الحضاري في نفوس أبناء الصحراء حتى صاروا طليعة العالم كلّه في العلم والمعرفة
وسائر جوانب الحضارة والمدنية.
العلم والإيمان:
وتجدر الاشارة إلى أنّ العقيدة تربط العلم بالايمان، فالعلم بدون إيمان كغرس بلا
ثمر، العلم يدعو إلى الايمان، والايمان بدوره يحث على العلم، والفصل بينهما يؤدي
إلى عواقب لا تحمد عقباها.. يقول الشهيد مرتضى المطهري: « قد أثبتت التجارب
التأريخية، أنّ فصل العلم عن الايمان قد أدى إلى أضرار لا يمكن تعويضها، يجب معرفة
الايمان على ضوء العلم، والايمان يبتعد عن الخرافات في نور العلم، وبفصل العلم عن
الايمان يتحول الايمان الى الجمود والتعصب الأعمى والدوران بشدة حول نفسه، وعدم
الوصول إلى مكان، والمكان الفارغ من العلم والمعرفة ينقلب فيه المؤمنون الجهلة إلى
آلة بيد كبار المنافقين، والذي رأينا ونرى نماذج منهم في خوارج صدر الإسلام،
والادوار التي تلت بصور مختلفة.. والعلم بلا إيمان سراج في منتصف الليل بيد لص
لسرقة أفضل البضائع، ولهذا فإنّ الإنسان العالم بلا إيمان اليوم، لا يختلف عن
الجاهل بلا إيمان في الأمس أقل الاختلاف، من حيث طبيعة الأساليب والأفعال وماهيتها
»[51].
وعليه فالعلم بحاجة إلى الايمان كحاجة الجسد إلى روح، لأنّ العلم لوحده عاجز
بطبيعته عن بناء الإنسان الكامل، فالتربية العلمية الخالصة تبني نصف إنسان لا
إنسانا كاملاً، وتصنع إنسانا قد يكون قويا وقادرا ولكنّه ليس فاضلاً بالضرورة، هي
تصنع إنسانا ذا بعد واحد، هو البعد المادي، أما الإيمان فإنّه يصوغ الشخصية في
مختلف الأبعاد.
ولقد بلغ اغترار الأُوربيين بالعلم حدا وصل إلى حد التأليه والعبادة، وإن لم يقيموا
شعائره العبادية في كنائسهم، ولمّا كان الدين يرتكز على قواعد غيبية، خارج نطاق
المادة، اعتبروه ظاهرة غير علمية.
وعلى هذا الأساس ظهر بينهم داء الفصل بين الدين والعلم، وهو توجّه غريب عن منهج
الإسلام، « وليس أدل على هذا التماسك بين الايمان والعلم من هذه الدعوة الملحّة، في
الدين إلى طلب العلم والاستزادة منه في كل مراحل العمر، وفي كلِّ الحالات.. ومن هذه
القيمة الكبيرة التي يعطيها الدين للعلم والعلماء.
وإذا كان هناك صراع بين العلم والدين في بعض فترات التأريخ، كما حدث ذلك في تأريخ
المسيحية، فإنّ ذلك لا علاقة له بالدين، وإنّما هو لون من ألوان الانحراف عن الدين،
ولا يكون الدين مسؤولاً عما يرتكب الناس بحقه من انحراف »[52].
ومما يؤسف له، أنّ بعض الأصوات ترتفع هنا وهناك تنادي بالفصل بين العلم والدين،
بدعوى أنّ أُوربا تنكّرت للدين فتقدمت علميا وحضاريا، ونحن تمسكنا بالدين فتخلّفنا،
إنّ عقول هؤلاء إما قاصرة عن إدراك وظيفة العلم الذي هو أداة لكشف الحقائق
الموضوعية، وتفسير الواقع تفسيرا محايدا بأعلى درجة من الدقة والعمق. أو أنّ هذه
العقول جاهلة بمنهج الإسلام الذي ما انفك يدعو إلى العلم، وأغلب الظن أنها عقول
مأجورة تُردد مزاعم الأعداء والحاقدين على الإسلام، وتغضّ الطرف عن العواقب الروحية
الجسيمة، التي حصلت من جرّاء فصل العلم عن الدين: « وأوضح الأمثلة على ذلك، هذا
العصر الذي نعيش فيه، العصر الذي وصل فيه التقدم العلمي والمادي ذروته، ووصلت
الإنسانية إلى حضيضها من التقاتل الوحشي والتخاصم الذي يقطع أواصر الإنسانية،
ويجعلها تعيش في رعب دائم وخوف من الدمار، كما وصلت إلى الحضيض في تصورها لأهداف
الحياة وغاية الوجود الإنساني وحصرها في اللَّذة والمتاع، وانحطاطها ـ تبعا لهذا
التصور ـ إلى أحطّ دركات الانحلال الخلقي والفوضى الجنسية التي يعف عنها الحيوان
»[53].
وعليه فإنّ العقيدة الإسلامية لها فضل كبير على مناهج التربية التي تسعى لبناء
الإنسان، لتأكيدها على دور الايمان والعلم معا في بناء شخصية الإنسان، وبفصل العلم
عن الايمان يغدو الإنسان كإبرة مغناطيس تتأرجح بين الشمال والجنوب، وعليه فهو
بحاجةٍ ماسة إلى قوة تتمكن من إيجاد ثورة في ضميره، وتمنحه اتجاها أخلاقيا يحقق
إنسانيته، وهذا عمل لا يتمكن منه العلم بمعزل عن الدين.
الأستاذ عباس ذهيبات - بتصرف
[1] المحجة البيضاء،
المحقق الكاشاني 1: 172 كتاب العلم مؤسسة الاعلمي ط2.
[2] اُصول الكافي 1: 11 كتاب العقل والجهل.
[3] الزخرف 43: 22.
[4] الزخرف 43: 23.
[5] يونس 10: 78.
[6] الزخرف 43: 24.
[7] المائدة 5: 104.
[8] الاعراف 7: 28.
[9] الشعراء 26: 74.
[10] الزخرف 43: 25.
[11] آل عمران 3: 190 ـ 191.
[12] الذاريات 51: 21 ـ 22.
[13] يونس 10: 101.
[14] الطارق 86: 5 ـ 6.
[15] عبس 80: 24.
[16] الغاشية 88: 17 ـ 21.
[17] آل عمران 3: 190 ـ 191.
[18] راجع الكشاف، للزمخشري 1: 453.
[19] نهج البلاغة، صبحي الصالح: 270 ـ 271.
[20] المؤمنون 23: 115.
[21] الدخان 44: 38 ـ 39.
[22] اُصول الكافي 2: 55 / 3 كتاب الإيمان والكفر.
[23] تنبيه الخواطر، الامير ورّام بن أبي فراس 1: 250 باب التفكر ـ دار صعب.
[24] آل عمران 3: 137.
[25] الانعام 6: 6.
[26] يونس 10: 13.
[27] الأحزاب 33: 62.
[28] دور الدين في حياة الإنسان، للشيخ الآصفي: 121 ـ 122 ـ دار التعارف ط2.
[29] بحار الانوار 71: 325، عن المحاسن: 26.
[30] كنز العمال 16: 205.
[31] نهج البلاغة، صبحي الصالح: 290.
[32] نهج البلاغة: 296 ـ 297.
[33] نهج البلاغة: 393 ـ 394.
[34] البقرة 2: 179.
[35] المائدة 5: 6.
[36] من لا يحضره الفقيه 3: 369.
[37] ميزان الحكمة 8: 254، عن الترغيب والترهيب 3: 341.
[38] محمد 47: 24.
[39] البقرة 2: 111، النمل 27: 64.
[40] الكشاف 1: 178.
[41] أمالي الطوسي: 625 / 1292 مؤسسة البعثة. بحار الأنوار 39: 239 / 28.
[42] الزمر 39: 9.
[43] المجادلة 58: 11.
[44] طه 20: 114.
[45] فاطر 35: 28.
[46] آل عمران 3: 187.
[47] كنز العمال 10: 131 / 28655.
[48] نهج البلاغة، صبحي الصالح: 482 / حكم 81.
[49] نهج البلاغة: 496 / حكم 147.
[50] راجع كتاب منهج التربية الاسلامية، محمد قطب: 119 ـ دار دمشق ط2.
[51] الانسان والايمان، للشهيد المطهري 1: 15 طبع وزارة الارشاد الاسلامي.
[52] دور الدين في حياة الانسان، للشيخ الاصفي: 69 ـ دار التعارف ط2.
[53] منهج التربية الاسلامية، محمد قطب: 115.