إنَّ العقيدة الإسلامية هي القاعدة المركزية في التفكير الإسلامي، التي تصوغ
للإنسان المسلم نظرته التوحيدية للكون والحياة، وتنتج له مفاهيم صالحة تعكس وجهة
نظر الإسلام في شتى المجالات، كما تنتج له عواطف وأحاسيس خيرة.
فالعقيدة تمثل عنصر القوة، وهي التي صنعت المعجزات وحققت الانتصارات الكبرى في صدر
الإسلام.
ولأجل النهوض بالإنسان المسلم لا بدَّ من تذكيره بالمعطيات الحضارية التي منحتها
العقيدة لمن سبقه، وترسيخ قناعته بصوابيتها وصلاحيتها لجميع العصور.
ويمكننا إيجاز الدور الهام الذي قامت به العقيدة من أجل بناء الإنسان على جميع
الاصعدة بما يلي:
1 ـ على الصعيد الفكري: اعتبرت الإنسان موجودا مكرّما، أما الخطيئة التي قد يقع
فيها فهي أمر طارئ يمكن معالجته بالتوبة، وبذلك أشعرت الإنسان بقدرته على الارتقاء،
ولم تؤيسه من رحمة اللّه وعفوه، ثم أنّ العقيدة حررت الإنسان من الاستبداد السياسي
للحكام الوضعيين الظالمين، كما حررته من عادة تأليه البشر، وأطلقت حريته، ولكن
ضبطتها بقيود الشرع حتى لا تؤدي إلى الفوضى، كما ربطت الحرية الإنسانية بالعبودية
للّه وحده، والخضوع الواعي والطوعي لسلطته.
كما حررت الإنسان من شهوات نفسه ومن عبادة مظاهر الطبيعة من حوله، ومن الأساطير
والخرافات في الاعتقاد والسلوك.
ومن خلال عملية تحرير الفكر، قامت بعملية البناء، فأعطت مكانة كبيرة للعقل واعترفت
بدوره وفتحت أمامه آفاقا معرفية واسعة، كما فتحت أمامه نافذة الغيب، وأطلقته من أسر
دائرة الحس الضيقة، ووجهت طاقته الخلاقة للتأمل والاعتبار في آيات اللّه الآفاقية
والأنفسية، وجعلت من تفكره هذا عبادة هي من أفضل العبادات.
ولم تقتصر على ذلك بل وجهت طاقة العقل لاكتشاف السنن التاريخية الحاكمة على الاُمم
والشعوب، كما وجهت العقل للنظر في حكمة التشريع لترصين قناعة المسلم بشريعته
وصلاحيتها لكل زمان ومكان.
من جهة اُخرى دفعت العقيدة الإنسان إلى كسب العلم والمعرفة، وربطت بين العلم
والإيمان، فكل تفكيك بينهما سوف يؤدي إلى عواقب وخيمة، كما وجهت العقل للنظر
المستقل والملاحظة الواعية واستنباط النتائج من مقدمات يقينية، ودعته إلى عدم
التقليد في اُصول الدين.
2 ـ على الصعيد الاجتماعي: قامت العقيدة بدور تغييري كبير، فبينما كان فكر
الإنسان الجاهلي منصبّا حول ذاته ومصالحها، غدا بتفاعله مع إكسير العقيدة يضحي
بالغالي والنفيس في سبيل مبادئ دينه ومصالح مجتمعه.
وأزالت العقيدة التناقض القائم بين الدوافع الذاتية المتمثلة بحرص الإنسان على
مصالحه وبين مصالح الجماعة من خلال إثارتها للشعور الاجتماعي للفرد نحو الآخرين.
وقد نمّت العقيدة هذا الشعور بأساليب عدّة منها: إيقاظ حسّ الشعور بالمسؤولية تجاه
الآخرين، وتنمية روح التضحية والايثار لدى الفرد المسلم، ودفعه للانصباب في قالب
الجماعة.
من جهة أُخرى، قامت العقيدة بتغيير الروابط الاجتماعية بين الأفراد، من روابط تقوم
على أساس العصبية للقرابة، أو على أساس اللون أو المال أو الجنس، إلى روابط أسمى
تقوم على أسس معنوية هي التقوى والفضيلة والأخاء الإنساني.
ونقلت العقيدة الأفراد من حالة التناقض والصراع إلى حالة التعارف والتعاون، فشكلوا
أُمّة واحدة مرهوبة الجانب بعد أن كانوا قبائل وجماعات متفرقة ومتناحرة، لا تقيم
لهم الاُمم وزنا.
أضف إلى ذلك أن العقيدة الإسلامية قد قامت بتغيير العادات والتقاليد الجاهلية التي
تسيء لكرامة الإنسان وتسبب له العنت والمشقة.
3 ـ على الصعيد النفسي: أسهمت العقيدة في خلق طمأنينة وأمان للإنسان، مهما كانت
عواصف الأحداث من حوله.
وقد اتّبعت وسائل عديدة لتخفيف المصائب التي تواجه الإنسان على حين غرّة، ومن تلك
الوسائل: بيان طبيعة الدنيا، وأنّها دار محن واختبار، مليئة بتيارات المصائب التي
تهب على الإنسان كريح السموم، وعليه فمن المستحيل على الإنسان أن يطلب الراحة
والسكينة فيها. وعليه أن يضع نصب عينه النجاح في هذا الامتحان الالهي في الدنيا
التي هي دار تكليف. ولقد خففت العقيدة من وطأة المصائب عبر التأكيد على أنّها
تستتبع أجرا وثوابا، كما وجهت نظر الإنسان للمصيبة العظمى وهي المصيبة في الدين،
الأمر الذي يخفف من وقع المصائب الدنيوية الصغيرة.
من جانب آخر، حرّرت العقيدة النفوس من المخاوف التي تشلّ نشاط الإنسان وتكبت طاقته
وتجعله نهبا لعوامل القلق والحيرة كما شجّعت العقيدة الإنسان إلى معرفة نفسه، فبدون
هذه المعرفة للنفس يصبح من الصعوبة بمكان السيطرة عليها وكبح جماحها، ثم بدون معرفة
النفس لا يمكن معرفة اللّه تعالى حق معرفته.
ومن خلال البحث استنتجنا بأنّ الأمراض النفسية الخطيرة كالعصبية والشح والأثَرة إذا
لم تعالج فإنّها ستؤدي إلى عواقب اجتماعية وسياسية خطيرة، كتلك الفتنة التي عصفت
بالمسلمين في السقيفة، التي بيّن الإمام علي (ع) جذورها النفسية.
4 ـ على الصعيد الاخلاقي: قامت العقيدة بدور خلاّق في بناء منظومة الاخلاق
للفرد المسلم، وفق أُسس دينية تستتبع ثوابا أو عقابا، وليس مجرّد توصيات إرشادية لا
تتضمن المسؤولية، على العكس من القوانين الوضعية، التي أزالت شعور رقابة اللّه
والمسؤولية أمامه من نفس الفرد، وبذلك نسخت ركيزة الأخلاق، فالأخلاق بدون الإيمان
تفقد ضمانات الالتزام بها.
والملاحظ أنّ العقيدة اتّبعت أساليب عدّة لدفع الأفراد للتحلّي بالأخلاق الحسنة
وتجنّب الأخلاق السيئة منها:
إبراز المعطيات الاُخروية وأيضا الدنيوية المترتبة على الأخلاق الحسنة أو السيئة.
كما اتّبعت أُسلوب «الاُسوة الحسنة» لتربط الأفراد برموز العقيدة ومرشديها بغية
التأثر بمحاسن أخلاقهم والتأسي بسيرتهم.
* الأستاذ عباس ذهبيات – بتصرف يسير