منذ أن بزَغَ نورُ الإسلام ونورُ المصطفى محمّدٍ، صلّى الله عليه وآله، كان الإمامُ
عليّ بن أبي طالب، عليه السّلام، قرينَ الحقّ الّذي لا يفارقه، فبلغ في بصيرته أرقى
الدّرجات، ووصل في يقينِه إلى أعلى المقامات.. ولكنّه حُسِد؛ إذ كُلُّ مَوْهُوبٍ
مَحْسُودٌ - كما قال هو سلامُ الله عليه.
لم يقفِ الأمر عند الحَسد، بل تفاقم حتّى تَحوّل إلى تفكيرٍ جادٍّ باغتيال تلك
الشّخصيّة الإلهيّة المُتفرّدة، وكان الباطل دائماً يَكيدُ الحقَّ، كما هو دأب
الشّرّ يكيد دوماً الخيرَ، ويتحيّن الفرصة للغدر وللقتل؛ لأنّ عليّاً عليه السّلام
قد مُلئ خيراً، ولأنّ الحقّ تجسّد فيه حتّى قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «عَلِيٌّ
مَعَ الحَقِّ، وَالحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ»، ودعا له، ودعوته بالغةٌ مستجابة: «اللَّهُمَّ
أَدِرِ الحَقَّ مَعَهُ حَيْثَ دارَ».
وكأنّ الإمام عليّاً عليه السّلام صار مُتَّبَعاً والحقُّ تابعٌ له، وكأنّه، سلام
الله عليه، صار أوضحَ من الحقّ، أو أنّه أصبح هو الحقّ في أجلى مصاديقه.. حتّى أنّ
الحقّ الّذي يطلبُه النّاس لا بدّ لهم أن يعرفوه من خلال عليٍّ، سلامُ الله عليه،
لأنّ الحقّ أصبح - بدعوةٍ نَبويّةٍ مُستجابة - يدور مع عليٍّ حيثما دار عليٌّ، عليه
السّلام.
ومن هنا أخذ الباطل يجنّد أهله ويُثير في دفائنهم كلَّ حقدٍ وحسدٍ وغِلٍّ وثأرٍ،
ليكونوا جادّين غير مُتردّدين في اغتيال الحقّ الّذي تجسّد في الإمام عليٍّ عليه
السّلام وتمثّل فيه. والإثارةُ لا بدّ منها، والحَسدُ أحدُ المُثيرات المُؤثّرة،
حتّى تأتي السّاعة المناسبة!
لمّا نزل قوله تعالى:
﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا
آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ العنكبوت:1-2، قال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام:
«عَلِمْتُ أَنَّ الفِتْنَةَ لا تَنْزِلُ بِنا وَرَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ بَيْنَ أَظْهُرِنا، فَقُلْتُ: يا رَسولَ اللهِ! ما هَذِهِ الفِتْنَةُ الّتي
أَخْبَرَكَ اللهُ تَعالى بِها؟ فَقالَ: يا عَلِيُّ! إِنَّ أُمَّتي سَيُفْتَنونَ مِنْ
بَعْدي؛ فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أوَ لَيْسَ قُلْتَ لي يَوْمَ أُحُدٍ: ".."
أَبْشِرْ؛ فَإِنَّ الشَّهادَةَ مِنْ وَرائِكَ؟ فَقالَ لي: إِنَّ ذَلِكَ لَكَذَلِكَ،
فَكَيْفَ صَبْرُك إذَنْ؟ فَقُلْتُ: يا رَسولَ اللهِ، لَيْسَ هَذا مِنْ مَواطِنِ
الصَّبْرِ، وَلِكنْ مِن مَواطِنِ البُشْرى وَالشُّكْرِ».
وتستمّر البشائر وافدةً على الإمام عليّ عليه السّلام، أنّه المظلوم بعد النّبيّ،
صلّى الله عليه وآله، وأنّه لم يكن ظالماً يوماً لأحدٍ قطّ - حاشاه وألف حاشاه -
وأنّه لا بدّ يوماً أن يُغتال عاجلاً أو آجلاً، قَصُر الزّمن به أم طال، ولكن: على
أيّة حال، وكيف وأين ومتّى؟!
يروي لنا الإمام عليّ بن موسى الرّضا عليه السّلام أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وآله
خطب مُستقبِلاً شهرَ رمضان، ذاكراً فضائل هذا الشّهر، وبعد فقرات وعبارات من خطبته
الشّريفة، قام أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام، فقال: يا رسول الله، ما أَفْضَلُ
الأَعْمالِ في هَذا الشَّهْرِ؟ فقال صلّى الله عليه وآله: يا أبا الحَسَنِ،
أَفْضَلُ الأَعْمالِ في هذا الشَّهْرِ الوَرَعُ عَنْ مَحارِمِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وهنا ينفجر النّبيّ صلّى الله عليه وآله بالبكاء، فيسأله الإمام عليّ عليه السّلام:
«يا رَسولَ اللهِ، ما يُبْكيكَ؟!»، فقال ووجهه يتلالأ بالدّموع، وصوته الحزين يصل
إلى مسامع المسلمين في المسجد: «يا عَلِيُّ! أَبْكي لِما يُسْتَحَلُّ مِنْكَ في
هَذا الشَّهْرِ، كَأَنّي بِكَ وَأَنْتَ تُصَلّي لِرَبِّكَ.. وَقَدِ انْبَعَثَ
أَشْقى الأَوّلينَ وَالآخِرينَ، شَقيقُ عاقِرِ ناقةِ ثَمودَ، فَضَربَكَ ضَرْبَةً
عَلى قَرْنِكَ، فخَضَّبَ مِنْها لِحْيَتَكَ».
وهنا كان للإمام عليّ عليه السّلام سؤاله الأوحد: «يا رَسولَ اللهِ! وَذَلِكَ في
سَلامَةٍ مِن دِيني؟»، فقال صلّى الله عليه وآله يبشّره أيضاً: «في سَلامَةٍ مِنْ
دِينِكَ».
وتقترن البشارة بعَرض الظُّلامة وبيان المأساة الّتي ستحلّ بأهل البيت النّبويّ ثمّ
بالمسلمين؛ إذ سيُحرَمون من ذلكم الوجود الإلهيّ الشّريف على الأرض، بعد أن كان
فرصةً عظمى لهم لأن يتنعّموا بعلومه وحِكَمه وأنفاسه القُدسيّة العابدة لله تبارك
وتعالى. وفي (حِلْية الأولياء) يروي مؤلّفُه الحافظ أبو نعيم الأصفهانيّ، بسنده عن
أبي برزة، قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: إِنَّ اللهَ تَعالى عَهِدَ
إِلَيَّ عَهْداً في عَلِيٍّ، فَقُلْتُ: يا ربِّ بَيِّنْهُ لي،فَقالَ: اسْمَعْ،
فَقُلْتُ: سَمِعْتُ،فَقالَ: إِنَّ عَلِيّاً رايَةُ الهُدى، وَإِمامُ أَوْلِيائي،
وَنورُ مَنْ أَطاعَني.. وَهُوَ الكَلِمَةُ التي أَلزَمْتُها المُتَّقينَ. مَنْ
أحَبَّهُ أَحَبّني، وَمَنْ أَبْغَضَهُ أَبْغَضَني، فَبَشِّرْهُ بِذَلِكَ.
فَجاءَ عَلِيٌّ [والحديث للنّبيّ صلّى الله عليه وآله] فَبَشَّرْتُهُ، فَقالَ: يا
رَسولَ اللهِ! أَنا عَبْدُ اللهِ وَفي قَبْضَتِهِ، فَإِنْ يُعَذِّبْني فَبِذَنْبي،
وَإِنْ يُتِمَّ ليَ الّذي بَشَّرْتَني بِهِ.. فَاللهُ أَوْلَى بِهِ.
قال رسولُ الله، صلّى الله عليه وآله: قَلْتُ: أللَّهُمَّ اجْلُ قَلْبَهُ،
وَاجْعَلْ رَبيعَهُ الإِيمانَ؛ فَقالَ اللهُ: قَدْ فَعَلْتُ بِهِ ذَلِكَ. ثُمَّ
إنَّهُ رَفَعَ إِلَيَّ أَنَّهُ سَيَخُصُّهُ مِنَ البَلاءِ بِشَيْءٍ لَمْ يَخُصَّ
بِهِ أَحَداً مِنْ أَصْحابي؛ فَقُلْتُ: يا رَبِّ! أَخي وَصاحِبي، فَقالَ: إِنَّ
هَذا شَيْءٌ قَدْ سَبَقَ، إِنَّهُ مُبْتَلى.. وَمُبْتَلى بِهِ!».
وفي (تاريخ بغداد) للخطيب البغداديّ، و(كنز العمّال) للمتّقي الهنديّ، عن عليٍّ
عليه السّلام، قال: «بَيْنا رَسولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ
آخِذٌ بِيَدي وَنَحْنُ نَمْشي في بَعْضِ سِكَكِ المَدينَةِ.. فَمَرَرْنا
بِحَديقَةٍ، فَقُلْتُ: يا رَسولَ اللهِ! ما أَحْسَنَها مِنْ حَديقَةٍ! قالَ: لَكَ
في الجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْها.
حَتّى مَرَرْنا بِسَبْعِ حَدائِقَ، كُلُّ ذَلِكَ أَقولُ: ما أَحْسَنَها! وَيَقولُ:
لَكَ في الجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْها. فَلَمّا خَلا لَهُ الطَّريقُ اعْتَنَقَني ثُمَّ
أَجْهَشَ باكِياً، قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ ما يُبْكيكَ؟! قالَ: ضَغائنُ في صُدورِ
أَقْوامٍ لا يُبْدونَها لَكَ إِلَّا مِنْ بَعْدي. قُلْتُ: يا رَسولَ اللهِ! في
سَلامَةٍ مِنْ ديني؟ قالَ: في سَلامَةٍ مِنْ دِينِكَ».
ونقلت عائشة، قالت: «رأيتُ النّبيَّ صلّى الله عليه وآله التزمَ عليّاً وقَبَّله،
ويقول: بِأَبي الوحيدُ الشّهيد!».
وكان الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام على يقينٍ ممّا سيجري عليه، وقد فوّض أمرَه
إلى بارئه، ولم يتجاوز حدود الله تعالى؛ فكم روَوا أنّه، عليه السّلام، قرأ لابن
ملجَم المراديّ هذا البيت[لعمرو بن معد يكرب الزّبيديّ]:
أُريـدُ حَـيـاتَـهُ وَيُريـدُ قَتْلي عَذيرَكَ من خَليلِكَ مِنْ مُرادِ
وقد سمعه النّاس يقول مشيراً إليه: «أَمَا إِنَّ هَذا قاتِلي»، فقالوا له: فما
يمنعك منه [أي مِن معاقبته]؟! قال: «إِنَّهُ لَمْ يَقْتُلْني بَعْدُ».
أجَل، لم يتجاوز فيقيم حدّاً أو قصاصاً قبل الجناية، وكان يعلم بمنيّته الّتي
اختارها الله تعالى له: في أشرف البقاع.. المسجد، وفي أشرف الشّهور.. شهر رمضان،
وفي أشرف اللّيالي.. ليلة القدر، وفي أشرف الحالات.. السّجود، وقد اشتهر الحديث
الشّريف: «أَقْرَبُ ما يَكونُ العَبْدُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ ساجِدٌ».
وقد حلّت تلك اللّيلة الّتي وُعِد بها، فأكثرَ، عليه السّلام، الخروجَ والنّظرَ إلى
السّماء.. هكذا يذكر ابن حجر في (الصّواعق المحرقة)، مُضيفاً: فلمّا كانت اللّيلة
الّتي قُتل في صبيحتها، جَعَل يقول: «وَاللهِ ما كَذَبْتُ ولا كُذِبْتُ، وَإِنَّها
اللّيلةُ الّتي وُعِدتُ». فلمّا خرج وقتَ السَّحَر ضرَبَه ابن ملجَم الضّربةَ
الموعود بها!
وقد تقدّم للشّهادة مرّاتٍ وكرّات، وتمنّاها خاتمةً طيّبةً حتّى أراح خاطرَه
الشّريف رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وبَشّره بها. فإذا تقدّم لها في موعدها
الحقّ، قال، عليه السّلام، مُتَوجّهاً بروحه القدسيّة إلى الله تبارك وتعالى:
«اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنا في المَوْتِ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنا في لِقائِكَ». فإذا
هبط السّيف الظّالم على رأسه الشّريف صاح مؤذّناً في الأزَل والأبَد:
فُزْتُ
وَرَبِّ الكَعْبَةِ. لكنّ جبرئيل هتف مرهوباً بين الأرض والسّماء: تَهَدَّمَتْ
وَاللهِ أَرْكانُ الهُدى!