أجمع أئمّة المسلمين وفقهاؤهم على المكانة السامية للإمام جعفر بن محمّد بن عليّ بن
الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام، فهو كما يقول ابن خلّكان: «كان من
سادات أهل البيت عليهم السلام، ولُقِّب بالصادق، لصدقه في مقالته، وفضلُه أشهَر من
أن يُذْكَر».
في ما يلي مقتبسات من أنوار سيرته الشريفة كما وردت على لسان أكابر العلماء، نقلاً
عن (موسوعة طبقات الفقهاء):
كانت ولادة الإمام جعفر الصادق عليه السلام بالمدينة المنوّرة في السّابع عشر من
ربيع الأوّل، وقيل غير ذلك، سنة ثمانين للهجرة، وقيل ثلاث وثمانين. وقد عاش الإمام
عليه السّلام شطراً من حياته في العصر الأُمويّ، وكان يتحيّن الفرص المؤاتية لأداء
رسالته، ونشر علومه، بعد أن حرص الأُمويّون وبكلّ الوسائل على طمس آثار أهل البيت
وفِقههم، حتّى إذا وجدَ الدولة الأُمويّة ينتابها الضعف، وتسير نحو الانهيار، نهض
عليه السّلام بكلّ إمكانياته، لنشر أحاديث جدّه صلّى الله عليه وآله، وعلوم آبائه،
فتوافد عليه العلماء وطلّاب العلم حتّى بلغت الجامعة، التي أسّسها قبله أبوه الباقر
عليه السّلام، في عصره أوج نشاطها وازدهارها؛ ولقد أحصى أصحاب الحديث أسماءَ الرواة
عنه فكانوا أكثر من أربعة آلاف رجل، وأدرك منهم الحسنُ بن عليّ الوشّاء (وكان من
أصحاب الرضا عليه السّلام) تسعمائةَ شيخ.
فممّن روى عنه: أبان بن تغلب، ومعاوية بن عمّار الدهنيّ، والسّفيانان، والحسن بن
صالح بن حيّ، وعبد العزيز الدراورديّ، ويحيى القطّان، ومسلم الزَّنجيّ، وشعبة بن
الحجّاج، وحفص بن غياث.
ولم يكن نشاط الإمام عليه السّلام مقصوراً على تدريس الفقه الإسلاميّ، وأدلَّة
التشريع، بعد أن اتّسم ذلك العصر بظهور الحركات الفكريّة، ووفود الآراء الاعتقاديّة
الغريبة، ودخول الفلسفة المتأثّرة بالفكر الهنديّ واليونانيّ، بل نجد الإمام عليه
السّلام قد تحدّث في التوحيد وأركانه، والعدل، والقدَر، وإرادة الإنسان، وغير ذلك،
وتحدّث أيضاً في طبائع الأشياء، وخواصّ المعادن، وفي سائر الكَونيّات.
معلّم العلماء
قال الشيخ محمّد أبو زهرة: «وكان يتّخذ من ذلك ذريعةً لمعرفة الله تعالى، وإثبات
وحدانيّته، وهو في ذلك يتبع منهاج القرآن الكريم الذي دعا إلى التأمّل في الكون وما
فيه».
وقد تضافرت أقوال علماء التاريخ على صِلته بجابر بن حيّان، وتتلمُذ جابر له في
الاعتقاد وأُصول الإِيمان. قال ابن خلّكان: «وكان تلميذه أبو موسى جابر بن حيّان
الصوفيّ الطرسوسيّ قد ألَّف كتاباً يشتمل على ألف ورقة تتضمّن رسائل جعفر الصادق،
وهي خمسمائة رسالة».
وللإمام الصادق عليه السّلام مناظراتٌ مع الزنادقة والملحدين في عصره، والمتقشّفين
من الصوفيّة، وهي في حدّ ذاتها ثروة علميّة تركها الإمام عليه السّلام.
قال الشيخ المفيد: «ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر ذكره
في البلدان، ولم ينقَل عن أحد من أهل بيته العلماء ما نُقل عنه، ولا لقيَ أحدُ منهم
من أهل الآثار ونقلَة الأخبار، ولا نقلوا عنهم كما نقلوا عن أبي عبد الله عليه
السلام».
وقد برز بتعليمه من الفقهاء والأفاضل جمٌّ غفير، وأخذ عنه مالك بن أنَس، وانتفع من
فقهه وروايته، وكان أبو حنيفة يروي عنه أيضاً.
قال مالك بن أنس: «لقد كنتُ آتي جعفر بن محمّد فكان كثيرَ التبسُّم، فإذا ذُكر
عنده النبيّ صلّى الله عليه وآله تغيّر لونه، وقد اختلفتُ إليه زماناً فما كنت أراه
إلَّا على إحدى ثلاث خصال، إمّا مصلَّياً وإمّا صائماً وإمّا يقرأ القرآن، وما
رأيته يحدّث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله إلَّا وهو على طهارة، ولا يتكلَّم
فيما لا يعنيه، وكان من العبّاد الزهّاد الذين يخشون الله تعالى».
وذكر أبو القاسم البغّار في (مسند أبي حنيفة): «قال الحسن بن زياد: سمعت أبا حنيفة
وقد سُئل: مَن أفقهُ من رأيت؟ قال: جعفر بن محمّد، لمّا أقدمَه المنصور بعثَ إليّ،
فقال: يا أبا حنيفة، إنّ الناس قد فُتنوا بجعفر بن محمّد، فهيّئ لي من مسائلك
الشِّداد، فهيّأتُ له أربعين مسألة، ثمّ بعث إليّ أبو جعفر [المنصور العبّاسيّ]،
وهو بالحيرة، فأتيته فدخلتُ عليه، وجعفر جالسٌ عن يمينه، فلمّا بصرتُ به، دخلني من
الهيبة لجعفر ما لم يدخلني لأبي جعفر، فسلَّمتُ عليه، فأومأَ إليّ فجلست، ثمّ التفتَ
إليه فقال: يا أبا عبد الله، هذا أبو حنيفة.
قال: «نعم أعرفُه»، ثمّ التفتَ إليّ فقال: يا أبا حنيفة، ألقِ على أبي عبد الله من
مسائلك، فجعلتُ أُلقي عليه فيُجيبني فيقول: «أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون
كذا»، فربّما تابعَنا، وربّما تابعَهم، وربّما خالفنا جميعاً، حتّى أتيتُ على
الأربعين مسألة، فما أخلَّ منها بشيء». ثمّ قال أبو حنيفة: «أليس قد رَوَينا أنّ
أعلم الناس أعلمُهم باختلاف الناس؟».
وقال الشيخ محمد أبو زهرة: «لا نستطيع في هذه العجالة أن نخوض في فقه الإمام
جعفر، فإنّ أُستاذ مالك وأبي حنيفة وسفيان بن عيينة، لا يمكن أن يدرّس فقهه في مثل
هذه الإلمامة».
وعن أبي بحر الجاحظ (مع عدائه لأهل البيت): «جعفر بن محمّد الذي ملأ الدنيا علمُه
وفقهه، ويقال: إنّ أبا حنيفة من تلامذته، وكذلك سفيان الثوريّ، وحسبك بهما في هذا
الباب».
قولُ الحَقّ أمام السلطان الجائر
أمّا عن علاقة الامام بحكّام عصره، فقد ذُكر أنّه عليه السّلام واجه في أيام
المنصور العبّاسيّ من المِحن والشدائد ما لم يواجهه في العهد الأُمويّ، وكان وجوده
ثقيلًا عليه، لَانّه أينما ذهب وحيثما حلّ يراه حديثَ الجماهير، ويرى العلماء
وطلّاب العلم يتزاحمون من كلّ حدبٍ وصوب على بابه في مدينة الرسول صلّى الله عليه
وآله، وهو يزوّدهم بتعاليمه، ويُلقي عليهم من دروسه وإرشاداته.
وكان المنصور يدعوه إلى لقائه كلّما ذهب إلى الحجّ، ويتّهمه بما يساوره من رَيبٍ
وظنون حول تحرّك الامام عليه السّلام، ولقد دعاه مرّةً إلى بغداد عندما بلغه أنّه
يُجبي الزكاة من شيعته، وأنّه كان يمدّ بها إبراهيم ومحمّداً وَلَدَي عبد الله بن
الحسن عندما خرجا عليه.
رُوي أن المنصور استدعاه إليه يعاتبه على قطيعته له، وكان قد زار المدينة ولم يدخل
عليه الإمام الصّادق فيمَن زاره من الوجوه والأشراف، فقال له: لمَ لم تَغْشَنَا كما
يغشانا الناس؟ فأجابه الإمام عليه السّلام: «ليسَ لنا من أمرِ الدّنيا ما نخافُك
عليه، ولا عندَك من أمر الآخرةِ ما نَرجوه منكَ، ولا أنتَ في نعمةٍ نهنّئكَ بها،
ولا في نقمةٍ فنعزّيك»، فقال له المنصور: تَصحَبُنا لتنصحَنا، فردّ عليه الإمام
عليه السّلام بقوله: «إنّ مَن يريدُ الدنيا لا يَنصَحُكَ، ومَن أرادَ الآخرةَ لا
يَصحَبُكَ».
استُشهد الإمام عليه السّلام في زمن
المنصور العبّاسيّ بسُمٍّ دسَّه هذا الأخير في طعامه، في الخامس والعشرين من شوّال،
وقيل غير ذلك، سنة ثمان وأربعين ومائة، ودُفن بالبقيع.
وقال أبو هريرة العجليّ، حينما حمل المشيّعون جنازته:
أَقولُ وَقَدْ راحُوا بِهِ يَحْمِلونَهُ**عَلى كَاهِلٍ مِن حامِليهِ وَعاتِقِ
أَتَدْرونَ ما ذا تَحْمِلونَ إلى الثَّرى**ثَبيراً ثَوى من رَأْسِ عَلْياءَ شاهِقِ
غَداةَ حَثا الحاثونَ فَوْقَ ضَريحِه**تُراباً، وَأَوْلى كانَ فَوْقَ المَفارِقِ