في اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة سنة عشرة للهجرة، جمع النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله المسلمين عند رجوعه من الحجّ في مكانٍ يُسمّى «غدير خمّ»، وخطبَهم خطبةً مفصّلة، وفي آخر خطبته قال: «أَلَسْتُمْ تَعْلَمونَ أَنّي أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ؟»، قالوا: بلى، فأخذ بيد عليٍّ عليه السلام فقال: «اللَّهُمَّ مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ». فلقِيَه عمرُ بعدَ ذلك فقال: هنيئاً لك يا ابنَ أبي طالب، أصبحتَ وأمسيتَ مولى كلّ مؤمنٍ ومؤمنة.
فهل لهذا اليوم منزلةٌ في الشريعة؟
ذهب الشيعة إلى أنّه يوم عيد وفرح وسرور، واعتمدوا على روايات كثيرة استدلّوا بها
على كونه عيداً.وذهب قومٌ من السّنّة إلى أنّه ليس بِعيد، ومَن اتّخذه عيداً فهو
مبتَدِع!! وتعصّب هذا البعض من المسلمين أشدّ التعصّب ضدّ الشيعة، وأباح دماءَهم
لأجل اتّخاذهم يوم الغدير يومَ عيد.هذا المقال المقتطف من (موسوعة الغدير) للعلّامة
الأميني رضوان الله عليه، يسلّط الضوء على نماذج من أقوال علماء المسلمين السنّة في
كون يوم الغدير عيداً من الأعياد الدينيّة.وممّا شِيْءَ من جهته لحديث الغدير
الخلودُ والنشور، ولمفاده التحقّق والثبوت، اتّخاذُه عيداً يُحتفَل به وبليلته
بالعبادة والخشوع، وإدرار وجوه البِرّ، وصِلة الضعفاء، والتوسّع على النفس،
والعائلات، واتّخاذ الزينة والملابس القَشيبة. فمتى كان للملأ الدينيّ نزوعٌ إلى
تلكم الأحوال، فطبْعُ الحال يكون له اندفاعٌ إلى تَحرّي أسبابها، والتثبّت في
شؤونها فيفحص عن رواتها. أو أنّ الاتّفاق المقارن لهاتيك الصفات يُوقفه على مَن
ينشدها ويرويها، وتتجدّد له وللأجيال في كلّ دورٍ لفتةٌ إليها في كلّ عام، فلا تزال
الأسانيد متواصلة، والطُّرق محفوظة، والمتون مقروءة، والإنباء بها متكرّر.
صِلةُ المسلمين بيوم الغدير
إنّ الذي يتجلّى للباحث حول تلك الصفة أمران:
الأمر الأوّل: إنّه ليس صِلةُ هذا العيد بالشيعة فحسب، وإنْ كانت لهم به علاقة
خاصّة، وإنّما اشترك معهم في التعيُّد به غيرُهم من فِرق المسلمين، فقد عدّه:
البيروني في (الآثار الباقية في القرون الخالية) ممّا استعمله أهلُ الاسلام من
الأعياد.
وفي (مطالب السّؤول لابن طلحة الشافعي): «يومُ غدير خُمّ ذكره (أمير المؤمنين) في
شعره، وصار ذلك اليوم عيداً وموسماً لكونه كان وقتاً نصّه رسول الله صلّى الله عليه
وآله بهذه المنزلة العليّة، وشرّفه بها دون الناس كلّهم».
وقال: «وكلُّ معنًى أمكن إثباته ممّا دلّ عليه لفظُ المَولى لرسول الله صلّى الله
عليه وآله فقد جعله لعليٍّ وهي مرتبةٌ سامية، ومنزلةٌ سامقة، ودرجةٌ عليّة، ومكانةٌ
رفيعة، خصّصه بها دون غيره، فلهذا صار ذلك اليوم يومَ عيدٍ وموسمَ سرورٍ لأوليائه».
تُفيدنا هذه الكلمة اشتراكَ المسلمين قاطبة في التعيُّد بذلك اليوم، سواء رجع
الضمير في (أوليائه) إلى النبيّ أو الوصي صلّى الله عليهما وآلهما:
أمّا على الأوّل: فواضح.
وأمّا على الثاني: فكلّ
المسلمين يوالون أمير المؤمنين عليّاً؛ شرعٌ سواء في ذلك مَن يواليه بما هو خليفة
الرسول بلا فصل، ومَن يراه رابع الخلفاء. فلن تجد في المسلمين من ينصب له العداء
إلّا شذّاذٌ من الخوارج مرقوا عن الدين الحنيف.وتُقرئنا كتبُ التاريخ دروساً من هذا
العيد، وتَسالُمِ الأمّة الإسلاميّة عليه في الشرق والغرب، واعتناء المصريّين
والمغاربة والعراقيّين بشأنه في القرون المتقادمة، وكونه عندهم يوماً مشهوداً
للصلاة والدعاء والخطبة وإنشاد الشعر، على ما فُصِّل في المعاجم.ويظهر من غير موردٍ
من (الوفيّات لابن خَلِّكان) التسالم على تسمية هذا اليوم عيداً. ففي (ترجمة
المستعلى بن المستنصر): «فبُويع في يوم عيد غدير خُمّ، وهو الثامن عشر من ذي الحجّة
سنة 487».وقال في (ترجمة المستنصر بالله العبيدي): «وتوفّي ليلة الخميس لاثنتَي عشر
ليلة بقيت من ذي الحجّة سنة سبع وثمانين وأربعمائة رحمه الله تعالى.قلت: وهذه
اللّيلة هي ليلة عيد الغدير، أعني ليلة الثامن عشر من ذي الحجّة وهو غدير خُمّ -بضمّ
الخاء وتشديد الميم - ورأيت جماعةً كثيرة يسألون عن هذه اللّيلة متى كانت من ذي
الحجّة، وهذا المكان بين مكّة والمدينة وفيه غديرُ ماء، ويُقال: إنّه غيضةٌ هناك،
ولمّا رجع النبي صلّى الله عليه [وآله] وسلّم من مكّة، شرّفها الله تعالى، عامَ
حجّة الوداع ووصلَ إلى هذا المكان وآخى عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: (عَلِيٌّ
مِنّي كَهارونَ مِنْ موسى، اللَّهُمَّ والِ مَن والاهُ، وَعادِ مَنْ عاداهُ،
وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ). وللشيعة به تعلّقٌ كبير، وقال
الحازمي: وهو وادٍ بين مكّة والمدينة عند الجُحفة غدير، عنده خطب النّبيّ صلّى الله
عليه [وآله] وسلّم، وهذا الوادي موصوفٌ بكَثرة الوخامة وشدّة الحرّ».
وهذا الذي يذكره ابن خلّكان من كِبَر تعلّق الشيعة بهذا اليوم، هو الذي يعنيه
المسعودي في (التنبيه والأشراف) بعد ذكر حديث الغدير بقوله: «ووُلد عليٍّ رضي الله
عنه وشيعتُه يعظّمون هذا اليوم». ونحوه الثعالبي في (ثمار القلوب) بعد أن عدّ ليلة
الغدير من الليالي المضافات المشهورة عند الأمّة بقوله: «وهي الليلة التي خطب رسول
الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم في غَدِها بغدير خُمّ على أقتاب الإبل، فقال في
خطبته:(مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ، اللَّهُمَّ والِ مَن والاهُ،
وَعادِ مَنْ عاداهُ، وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ)، فالشيعة
يعظّمون هذه الليلة ويُحيونها قياماً».وذلكَ اعتقادُهم وقوعَ النصّ على الخلافة بلا
فصلٍ فيه، وهم، وإنْ انفردوا عن غيرهم بهذه العقيدة، لكنّهم لم يبرحوا مشاطرين مع
الأمّة التي لم تزل ليلةُ الغدير عندهم من الليالي المضافة المشهورة، وليست شهرةُ
هذه الإضافة إلّا لاعتقادِ خطرٍ عظيم، وفضيلةٍ بارزةٍ في صَبيحتها، ذلك الذي جعله
يوماً مشهوداً أو عيداً مباركاً.ومن جرّاء هذا الاعتقاد في فضيلة يوم الغدير وليلته،
وقعَ التشبيه بهما في الحُسن والبهجة. قال تميم بن المعزّ صاحب الديار المصرية،
المتوفّى 374، من قصيدة له ذكرَها الباخرزيّ في (دمية القصر):
حَسُنَّ كَحُسْنِ لَيالي الغَديرِ * وَجِئْنَ بِبَهْجَةِ أَيَّامِهِنَّهْ
وممّا يدل على ذلك: التهنئةُ لأمير المؤمنين عليه السلام من الشّيخَين، وأمّهات
المؤمنين، وغيرهم من الصحابة، بأمرٍ من رسول الله صلّى الله عليه وآله.
مبدأ عيد الغدير
الأمر الثاني: إنّ عهد هذا العيد يمتدّ إلى أمَدٍ قديم متواصل بالدور النبويّ،
فكانت البدأةُ يوم الغدير من حجّة الوداع بعد أن أصحر نبيّ الإسلام صلّى الله عليه
وآله بمرتكَز خلافته الكبرى، وأبان للملأ الدينيّ مستقرَّ إمرته من الوجهة الدينيّة
والدنيويّة، وحدّد لهم مستوى أمرِ دينه الشامخ، فكان يوماً مشهوداً يسرّ موقعُه كلَّ
معتنقٍ للإسلام، حيث وضّح له فيه منتجعَ الشريعة، ومُنبثَقَ أنوار أحكامها، فلا
تَلويه من بعده الأهواء يميناً وشمالاً، ولا يسفُّ به الجهل إلى هوّة السفاسف، وأيّ
يومٍ يكون أعظم منه؟ وقد لاح فيه لاحبُ السُّنَن [اللّاحب: الواضح]، وبان جُدَدُ
الطريق، وأُكمِل فيه الدين، وتَمّت فيه النعمة، ونَوّه بذلك القرآن الكريم.وإن كان
حقّاً اتّخاذُ يومٍ تَسنّمَ فيه الملوكُ عرشَ السَّلطَنة عيداً يُحتفل به بالمسرّة
والتنوير، وعقد المجتمعات، وإلقاء الخطب، وسَرْد القريض، وبسْط الموائد، كما جرت به
العادات بين الأمم والأجيال، فيومٌ استقرّتْ فيه الملوكيّة الإسلاميّة والولاية
الدينيّة العظمى لمَن جاء النصّ به من الصادِع بالدّين الكريم، الذي لا ﴿..يَنْطِقُ
عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ النجم:3-4، أَوْلى أن يُتَّخذ
عيداً يُحتفل به بكلّ حفاوةٍ وتبجيلٍ. وبما أنّه من الأعياد الدينيّة، يجب أن يُزاد
فيه على ذلك بما يقرِّب إلى الله زلفى من صومٍ وصلاةٍ ودعاءٍ وغيرها من وجوه
البرّ.ولذلك كلّه أمَر رسول الله صلّى الله عليه وآله، مَن حضر المشهدَ من أمّته،
ومنهم الشيخان، ومشيخةُ قريش، ووجوه الأنصار، كما أمر أمّهات المؤمنين بالدخول على
أمير المؤمنين عليه السلام وتَهنئته على تلك الحظوة الكبيرة بإشغاله منصّة الولاية،
ومرتبَع الأمر والنّهي في دين الله تعالى.
العلّامة الشيخ عبد الحسين الأميني رحمه الله