يتصدّر جهاد النفس وتزكيتها رأس التوجيهات العبادية والأخلاقية في مدرسة أهل بين
النبوّة عليهم السلام. ويعتبر كتاب (الأربعون حديثاً) للإمام الخميني، قدّس سرّه،
عنواناً بارزاً ضمن سلسلة العلوم الإلهية التي تتغذّى من أقوال المعصومين
وتوجيهاتهم الربّانية.
البحث عن تزكية النّفس وتهذيبها، كان شغل علماء الإماميّة وغيرهم طوال العصور؛
والسيّد الإمام الخميني، قدّس سرّه، في كتابه: (الأربعون حديثاً) سار على سنّة
أسلافه من العلماء، من أجل بيان نظراته في ما يخصّ تربية النفس وتزكيتها، واختار في
كتابه هذا، أربعين حديثاً من روائع الأحاديث، فمن يريد أن يصل إلى شيءٍ في هذا
المجال من المناسب جدّاً أن يراجع هذا الكتاب النفيس..وأوّل حديث في هذا الكتاب،
والذي هو أيضاً أوّل حديث في كتاب (وسائل الشيعة) للشيخ الحرّ العاملي، هو حديث
جهاد النفس: الجهاد الأكبر الذي عبّر عنه النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله..
بدايةً لفت نظري من خلال مراجعتي كتابَ (وسائل الشيعة) أنّ الحرّ العاملي - وهو مَنْ
ألّف كتاباً فقهياً روائياً باسم (وسائل الشيعة) - وعندما وصل إلى باب جهاد النفس،
صدَّر بابه بهذا التعبير: (باب وجوبه) أي وجوب مجاهدة النفس. والمعروف في الأوساط
العلمية أنّ الحرّ العاملي، صاحب الكتاب، قد يضمّن فتاواه من خلال عناوين الأبواب،
ومع أنّ هذه الروايات ليس فيها ما يشعر بالوجوب الصريح، ولكنّ صاحب (الوسائل) رحمه
الله، صدّر كتابه بكلمة (باب وجوبه)، ما يدلّ على أنّ القضية في مستوى عالٍ من
الأهميّة.. السيّد الإمام الخميني في كتابه والشيخ الحرّ العاملي في (وسائله)
صدَّرا بحثهما بهذه الرواية عن النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله: «أَنَّ
النَبِيَّ، صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، بَعَثَ سَرِيَّةً فَلَمّا رَجَعُوا قالَ:
مَرْحَباً بِقَوْمٍ قَضَوْا الجِهادَ الأَصْغَرَ وَبَقِيَ عَلَيْهِمُ الجِهادُ
الأَكْبَرُ، فَقيلَ: يا رسولَ اللهِ، ما الجِهادُ الأَكْبَرُ؟ قالَ: جِهادُ
النَّفْسِ».
وأوّل شرط من شروط المجاهدة: هو التفكّر..ومن المعلوم أنّ التفكّر مُقدَّم
على المجاهدة والعبادة والصوم وما شابه ذلك.. وهو بمعنى أن يعرف الإنسان بأنّه لم
يُخلق سدى، فربّ العالمين لم يخلق هذا الوجود المذهل، ولم يجعل في الأرض خليفة،
لينتهي الأمر إلى أن يتمتّع الإنسان كما تتمتّع الأنعام؛ فهنالك هدف، ولا بدّ أن
نتعرّف إلى هدف صاحب الخليقة من خلق الإنسان.. يقول الإمام الرضا عليه السلام: «لَيْسَ
العِبادَةُ كَثْرَةَ الصَّلاةِ وَالصَّوْمِ، إِنَّما العِبادَةُ التَّفَكُّرُ في
أَمْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ».فالمراد بأمر الله هنا ليس البحث في الذات الإلهية
وإنّما في غرضه من هذه الخلقة.. ويقول الإمام الصادق عليه السلام: «التَّفَكُّرُ
يَدْعو إِلى البِرِّ وَالعَمَلِ بِهِ». صحيحٌ أنّه تفكّر، وقد يكون في غرفة مُغلقة
ولكن هذا الفكر مقدّمة لكلّ خير، كما أنّ شياطين الأنس في غرفهم المُغلقة يخطّطون
المؤامرات الكبيرة وتنعكس في الساحة، فهي كلّها أفكار واستراتيجيّات في أماكن
مُغلقة..
والشرط الثاني: هو العزم..فبعد أن تفكّر الإنسان، فإنّه يعزم على الخروج من
هذا الواقع.. وهنا أيضاً نقطة جميلة جدّاً في (الأربعون حديثاً) يقول فيها السيّد
الإمام قدّس سرّه: نحن لا نريد من العزم ما أراده ابن سينا حيث عبّر عنها بالإرادة.
يقول ابن سينا: «إنّ أوّل خطوة فى سير العارفين هي الإرادة، وتلك الحالة هي الرغبة
في التعلّق بالحبل الإلهي المتين، لأنّها تمخّضت عن اليقين الحاصل من البرهان، أو
من خلال تهدئة وتسكين الذات بالإيمان.. وفي النتيجة سيكون السرّ يتحرّك ويتّجه نحو
القدس حتى يحصل على روح الاتصال، وما دام العارف على هذه الدرجة يُسمّى
مريداً».يقول الإمام الخميني نحن لا نريد الإرادة وإنّما نريد العزم، ويفسّر العزم
بأن يوطّن الإنسان نفسه ويتّخذ قراراً بترك المعاصي. ففرّق بين الإرادة وبين توطين
النفس على ترك المعاصي، وإذا وصل الإنسان إلى هذه الدرجة، فإنّه سوف يصل إلى
الخطوات المتقدّمة في عالم التزكية.
أنقل لكم هذه الفقرة من الكتاب، حيث يقول: «واعلم أنّ أول شرط للمجاهد في هذا
المقام والمقامات الأخرى، والذي يمكن أن يكون أساس الغلبة على الشيطان وجنوده هو
حفظ طائر الخيال، لأنّ هذا الخيال طائر محلِّق يحطّ في كل آنٍ على غصن، يجلب الكثير
من الشقاء، وأنّه من إحدى وسائل الشيطان التي يجعل الإنسان بواسطتها مسكيناً
عاجزاً»..هذه هي المشكلة!..
والحلّ: هو التمرين ومعاودة جلب هذا الطائر، فهذا الطائر صحيح أنّه يطير،
ولكن هنالك حبلاً مربوطاً برِجله، فكلّما حاول أن يطير، على الإنسان أن يسحبه
ويعيده إلى محلّه حتى لا يأتي إليه بالشقاء، ويحرمه من الخشوع في الصلاة والدعاء
والتركيز عند قراءة الكتب النافعة..يقول الإمام الخميني قدّس سرّه:«إنّ من الممكن
من باب التجربة، أن تسيطر على جزء من خيالك وتتنبّه له جيّداً، فمتى أراد أن يتوجّه
إلى أمر وضيع، فاصرفه نحو أمور أخرى، كالمُباحات أو الأمور الراجحة»..إذا وُفّق
الإنسان للوصول إلى هذه الدرجة، أي أن يفكّر متى ما أراد، ويُوقِف تفكيره متى شاءَ،
ولا يفكّر إلّا في ما يريد، فقد وصل إلى أعلى درجات الكمال.. والملاحظ أنّ السيّد
الإمام، قدّس سرّه، جعل هذه المسألة أوّل شرط للمجاهد، رغم أنّه أبعد ما يكون عن
فكر الناس السيطرة على هذا الطائر! ومن ذلك يعلم هذا البون الشاسع بين ما هو مطلوب
من الإنسان وبين واقعه الحالي! فكيف لإنسانٍ وهو بَعْدُ لم يسيطر على شهوته، أن
يسيطر على خياله! فأين هذا من هذه الدرجات العليا؟! إذاً الذي لا يجدّ في السير،
ويسيطر على كلّ زوايا وجوده، فهذا الإنسان لا يمكن أن يصل إلى درجة في القرب إلى
الله عزّ وجلّ.
بين العرفان المذموم والعرفان المحمود
من الملاحظ أنّ هنالك ما يُسمّى بحالةٍ من حالات التحليق الناقص.. فبعض الناس من
خلال بركات بعض المجاهدات والأذكار والأوراد والخَلَوات، حتّى بعض المجاهدات
الأنفسية والخارجية، قد يصل إلى حالة من حالات الشفافية الروحية، ومن الطبيعي أنّ
الإنسان الذي يعيش شيئاً من لذائذ عالم المعنى فإنّه يكاد يحتقر أو يستقذر لذائذ
عالم الطبيعة، وبالتالي ينفصم عن الواقع وعن المجتمع..ومن ناحية أخرى فهذا الإنسان
لم يصل إلى مرحلة مستقرّة من مراحل الوصل، فلا هو من أهل الدنيا بمعنى الانشغال
بانشغالات أهل الدنيا، ولا هو من أهل الآخرة لأنّه لم يصل إلى ركنٍ وثيق.. والحل هو
أن يعيش الإنسان بين الناس ولا يكون معهم، بمعنى أن يعيش حياته الطبيعية خارجاً،
ولكن في باطن الأمر يعيش حالة من حالات المراقبة.. وهذه أيضاً عبارة من كتاب (الأربعون
حديثاً) للسيّد الإمام، قدّس سرّه، يقول: «المراقبة لا تتعارض مع أيّ من أعمالك
كالكسب والسفر والدراسة، فكن على هذه الحال إلى الليل ريثما يحين وقت المحاسبة»..
إذاً، الكمال كلّ الكمال أن يعيش الإنسان حالة الاستحضار الإلهي والذكر المتصل وهو
يزاول نشاطه، ومن المعلوم أنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام قد زاولوا الأعمال
والحرب والقضاء والتدريس ومعاشرة النّاس، ومع ذلك ما ذهلوا عن الله تعالى طرفة عين.
انّ العلوم التخصّصية الأكاديمية كالطب والهندسة والفقه والأصول - كما نعلم - تحتاج
إلى سنوات من التخصّص، والإنسان الذي هو أجنبي عن المادّة يتبيّن من خلال كلامه
أنّه لا يفقه شيئاً في هذا العلم، بينما في القضايا الأخلاقية باعتبار أن القضية
قضية سلوكية والمعلومات فيها واضحة، فالأمر لا يحتاج إلى مستوى أكاديمي متميّز،
فسهولة المادّة تجعل البعض من الأدعياء من النساء والرجال يتصدّون لهذا الأمر،
وخاصّة بأن القضية فيها بعض المزايا من جمع المريدين وجمع الأموال وأمور أخرى أيضاً
لا يحسن ذكرها، وبالتالي كثر المُدّعون طوال التاريخ وليس فقط في هذا العصر.. وأمّا
كيف نميّز بين الصادق والمدَّعي، فهنالك عدة علامات فاضحة لمثل هؤلاء منها:
أوّلاً: كثرة الدعاوى العريضة والمبالغ فيها، وقد ورد هذا المضمون الجميل في
روايات أهل البيت عليهم السلام: «إِيّاكُمْ وَهَؤُلاءِ الرُّؤساءَ الّذينَ
يَتَرأّسونَ، فَوَاللهِ ما خَفَقَتِ النِّعالُ خَلْفَ رَجُلٍ إِلّا هَلَكَ
وَأَهْلَكَ»، أي أنّ الذي يريد أن يسمع أصوات من يطأ خلفه من الرجال وغيرهم، فهذا
علامة على أنّه إنسان لا حقيقة له، ولا يُرجى منه نفع لدنيا فضلاً عن الآخرة.
ثانياً: الابتعاد عن خطّ الكتاب والسنّة؛ فالبعض قد يأتي بأمورٍ مُجانبة
للشريعة.. ومن المعلوم أن الكتاب ما ترك شيئاً من الكليات، وسنّة الرسول وأهل البيت
عليهم السلام ما تركت شيئاً في التفريعات، فلماذا الاعتماد على أقوال لا أساس لها
ممّن هم لا يُركَن إليهم؟!
ثالثاً: الخواء العلمي. فالذي كتب في الأخلاق أمثال النراقي والحرّ العاملي
والفيض الكاشاني والسيّد الإمام والشهيد مطهري، رضوان الله عليهم، هؤلاء كانوا
علماء ولم يكتبوا في العرفان والأخلاق من فراغ، فقد درسوا الفقه والأصول والرجال
والحديث.. أمّا أن يأتي إنسان من عامّة الناس - كما هو الملاحظ هذه الأيّام - ليس
له من العلم شيء، ولا يفقه أوّليات الشريعة في الفقه، ويريد أن يكون قدوة للعارفين
كما يقولون، فهذا أمر غير مقبول أبداً!
بين الحال والمقام
لا بدّ من التفريق بين الحال والمقام، فهذه الحالات المُتقطّعة التي قد يجدها
الإنسان في الصلاة وفي العمرة وفي الحجّ بمنزلة أمطار موسمية، ومن المعلوم أنّ
المطر الموسمي لا يُعوَّل عليه في إنبات الزرع، فلا بدّ من تحويل الحالات المتقطّعة
إلى مقام وإلى حالة ثابتة وراسخة في النفس. فالإنسان قد يخشع في صلاة وفي ركعة وفي
زيارة، ولكن هذا لا يعوَّل عليه، وبعض الأوقات هذه الحالات قد تغشّ الإنسان وتعطيه
انطباعاً كاذباً عن مستواه الإيماني.
رعاية الإمام الحجّة عجّل الله تعالى فرجه الشريف، وعنايتُه
إن قضية أهل البيت عليهم السلام ليست قضية طائفة أو فرقة من فرَق المسلمين، القضية
أنّ هناك إسلاماً يتمثل على شكل حقيقة واحدة، وهذه الحقيقة الواحدة يُنظر إليها من
زوايا مختلفة ومن نوافذ متعدّدة، وأصفى هذه النوافذ وأقدرها على كشف هذه الحقيقة هم
أهل البيت عليهم السلام، الذين جعلهم الله، عزّ وجلّ، الحبل المتّصل بين الأرض
والسماء.
ومن المعلوم أنّ من مهام إمام كلّ عصر أن يرعى شؤون المؤمنين، وعلى الخصوص السالكين
إلى الله، عزّ وجلّ، كالشمس من وراء السحاب. وفي زماننا هذا فإننا نعتقد - بلا شك -
أنّ الإمام المهديّ عليه السلام من مهامه أن يتبنّى القابليات المتميّزة، بمنزلة
المزارع أو الشخص الذي له مشتل، ويرى بعض الزهور المتفتّحة المتميّزة، فيخرجها من
الحديقة العامة ليزرعها في دائرة أضيق تحت الرعاية الخاصة.الإمام عليه السلام -
وهذه القضية مدروسة ومبرهنة ومجرّبة - له في كلّ عصر مَن يرعاهم، وهذا لا يعني أنّ
الطرف يدرك هذه الرعاية، إذ قد تكون الرعاية من دون التفات.. إذاً، الالتجاء إلى
أهل البيت عليهم السلام من موجبات تسديد الإنسان السالك، وخصوصاً الالتجاء إلى صاحب
الأمر صلوات الله عليه وطلب الرعاية منه، ومن مصاديق هذا الالتزام في عالم الأقوال
هو الالتزام بزيارة «آل ياسين»، فإنّ فيها مضامين رائعة جدّاً، وقد حثّ عليها صاحب
الأمر عجّل الله تعالى فرجه الشريف، إذ قال: «بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا لِأَمْرِهِ تعْقِلوُنَ وَلا مِنْ أَوْلِيائِهِ تَقْبَلُونَ، حِكْمَةٌ بالِغَةٌ
فَما تُغْنِي النُّذُرُ، السَّلامُ عَلَيْنا وَعَلى عِبادِ اللهِ الصَّالِحِينَ.
إذا أَرَدْتُمُ التَّوَجُّهَ بِنا إِلى اللهِ تَعالى، وَإِلَيْنا، فَقولوا كَما قالَ
اللهُ تَعالى: سَلامٌ عَلى آلِ يس، السَّلامُ عَلَيْكَ يا داعِيَ اللهِ وَرَبَّانِيَّ
آياتِهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا بَابَ اللهِ وَدَيَّانَ دِينِهِ...».
* الشيخ حبيب الكاظمي (الأربعون) حديثاً